أن تكون إنسانًا
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الأحد 5 سبتمبر 2021 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
أن تكون وطنيا تعمل على إعلاء شأن بلدك والدفاع عن مصالحها أمر حميد. ولكن هتلر كان وطنيا رفع شعار ألمانيا فوق الجميع، وارتكب من الجرائم ضد الإنسانية أبشعها، وقاد العالم إلى حرب عالمية راح ضحيتها عشرات الملايين، وقاد بلده إلى الهزيمة والدمار والاحتلال والتقسيم.
أن تكون متدينا تسعى إلى رضاء الله والاهتداء بشريعته أمر حميد. ولكن كرادلة محاكم التفتيش وأتباع القاعدة وداعش ارتكبوا أبشع الجرائم من قتل وحرق وتعذيب تقشعر له الأبدان.
أن تكون ثوريا أمر حميد، تثور من أجل حرية بلدك وكرامة شعبك ضد الظلم والاضطهاد ولكن روبسبيير كان ثائرا لكنه بدلا من أن ينشر مبادئ الثورة الفرنسية ــ الحرية والمساواة والإخاء ــ نشر المقاصل التى أطاحت برءوس الآلاف فيما عرف بعصر الإرهاب.
أن تكون اشتراكيا أمر حميد، تسعى إلى إنصاف العالم من جشع أصحاب رأس المال وسد أو تقليل الفوارق بين الطبقات لكن ستالين ووزير خارجيته بيريا كانا اشتراكيين شنا حملة اضطهاد وتصفية ضد عشرات الآلاف تعرضوا للقتل والتصفية والتنكيل.
أن تكون رياضيا أمر حميد، تشجع التنافس الشريف لبناء الشباب بدنيا وأخلاقيا لكن هناك من قتلوا مشجعى الفريق المنافس بدم بارد.
لعلنا نتساءل كيف يتحول من حمل مبدأ حميدا وشريفا فى جوهره: الوطنية، التدين، الثورة، الاشتراكية وغيرها ويمشى فى طريق التطرف والعنف؟
لعلنا نجد الإجابة فى أن من يرفع راية مبدأ سامٍ جذاب ويركز عليه مع تنحية غيره فى دعوته فإنه فى نفس الوقت ينكس راية الإنسانية ويطؤها فى سبيل إعلاء معتقده. وطالما نكست راية الإنسانية فقد كامل راية المبدأ قيمته مهما بلغ سموه وتحوله إلى كائن متوحش بعد أن يكون قد فقد أهم دعائم رقيه وإنسانيته ويتحول إلى وحش من الضوارى يسفك الدماء ويقتل ويدمر ويعذب دون وازع ودون حائل.
ولكن ما هى الإنسانية وكيف نعرفها؟
الإنسانية هى التواصل مع الجنس البشرى والانتماء له والإدراك أن الغير مثله يحس ويتألم ويفرح ويحزن، وهو ابن وأب وأخ وصديق ويتأثر بأحاسيسه ويبكيه ضميره إذا تسبب فى أذى أو ضرر. ولعل هذا المعنى جاء فى قول الله «لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة»، وإذا ماتت النفس اللوامة مات الضمير ومات معه الندم.
يبدأ الشر عندما يشرع الناس فى توصيف الإنسان حسب رؤيتهم الخاصة فإن خالفنى فى الدين أو اللون أو رؤيته للوطنية أو المعتقد السياسى أو المصلحة الاقتصادية فهو شيطان يستحق القتل والتنكيل. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك القانون البابوى Sublimis Deus الذى أصدره بابا الفاتيكان بولس الثالث عام 1537 والذى ينص على أن قاطنى العالم الجديد هم من البشر!. أصدر البابا هذا المنشور بعد أن هاله موجة القتل والتدمير التى قام بها المستعمرون الإسبان فى العالم الجديد بعد اكتشافه واستعماره.
لم يوقف قانون البابا الدم والعنف الذى امتد شرقا لجلب العبيد من أفريقيا الذى مات منهم الملايين فى رحلة عبور المحيط وملايين أخرى فى الجحيم الذى دفعوا إليه، وامتد شمالا حيث قتل المستوطنون البيض الهنود الحمر الذين جردوهم من الإنسانية وقالوا عنهم المقولة المشهورة «الهندى الطيب هو الهندى الميت».
وفى القرن العشرين قتل مليون جزائرى على يد الفرنسيين، وقتل الملايين فى حربين عالميتين، وقتل آلاف من اليوغوسلاف فى حرب أهلية بين من عاشوا سويا كشعب واحد فى بلد واحد، وقتل عشرات الآلاف فى حرب بين قبيلتى الهوتو والتوتس فى رواندا.
شارك فى هذه الفظائع مسيحيون ومسلمون وبيض وسود ورأسماليون واشتراكيون لم تعصمهم انتماءاتهم من الوقوع فى الشر وتخضيب أياديهم بالدم.
نجحت أجهزة الدعاية فى شيطنة الطرف الآخر مستغلا فى ذلك الفن الذى من المفروض أن يسمو بالبشر ويهذب أخلاقهم فإذا به يعمل على بث الفرقة والعنصرية وغسلت السينما أدمغتنا فبتنا نصفق لكاوبوى وهو يقتل الهندى المتوحش وضحكنا على الخادم الأمريكى الأسود الذى قولب فى شكل أبله وظللنا سبعين سنة نشاهد همجية وبربرية الألمان واليابانيين فى الحرب العالمية الثانية وكأن الحلفاء ملائكة لم يحرقوا مدن ألمانيا واليابان بالقنابل ويقذفون اليابان بالقنابل الذرية.
ولعل من أبلغ نماذج التبلد الحسى وانعدام الإنسانية جاء على لسان الكولونيل بول تيبتس Paul Tibbets وهو الطيار الأمريكى الذى ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما والذى صرح فى حديث له فى عام 1987، بعد أكثر من 40 سنة من مهمته وبعد أن تجاوز سن السبعين سنة، أنه لم يؤرق للحظة بسبب مهمته وأن الحديث أنها كانت غير لازمة أو غير إنسانية هو محض هراء!
وفى مقابل هذا التبلد، شاهدت أثناء خدمتى فى السويد فى عام 1980 فيلما فيتناميا عن طائرة هليكوبتر أمريكية تقصف قرية فيتنامية بشكل متكرر وتقتل نساء وأطفال وشيوخ. وفى يوم نصب الجيش الفيتنامى كمينا للطائرة بواسطة صاروخ أخفوه بين الأشجار وأسقطوها وهرع الفلاحون يريدون التنكيل بالطيار، وكان أول الواصلين إلى الطائرة امرأة وجدت جثة الطيار وقد سقطت حافظته وأظهرت صورة تجمعه بزوجته وأمه وطفليه فنزلت دمعة من عينها وأغلقت عينيه بحنان وهى تلعن من أرسله ليَقْتُل ويُقْتَل.
إن التركيز على توجيه الخطابات إلى أصحاب العقائد المختلفة لتعديل معتقداتهم يؤدى إلى تمترسهم حول ما يعتقدون ويشعرون أنهم مستهدفون ومهددون ويتعرضون لمؤامرة مما يؤدى إلى زيادة تطرفهم وانعزالهم وكراهيتهم وشيطنتهم للآخر.
دعونا نركز على الخطاب الإنسانى الذى يركز على تعاطفنا مع بعض والتمسك بالقيم الإنسانية: فلتعبد من تريد، وتلبس ما تريد، فليكن لونك أبيض أو أسود أو أحمر أو أصفر، فلتكن وطنيا أو اشتراكيا مع مراعاة مشاعر وحساسيات الآخر وخصوصياته واحترامها رغم اختلافك معه. ولكن إياك أن تجعل معتقدك يصطدم مع إنسانيتك. فلتكن ما تختار ولكن أولا وأخيرا عليك أن تكون إنسانا.