يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون على استحالة التوصل فى المدى القريب إلى ما يسمى «حل الدولتين»، يوفر للفلسطينيين دولة ذات سيادة على أساس حدود 4 يونيو 1967 عاصمتها القدس الشرقية، وفقا لقرارات الأمم المتحدة وقواعد مؤتمر مدريد للسلام، ولا يخفى على أحد، أن فرص تحقيق ذلك تتضاءل عاما بعد عام، مع استمرار التوسع الاستيطانى الإسرائيلى بكثافة فى الضفة الغربية لنهر الأردن.
ويطرح بعض المفكرين فى ساحات مختلفة أنه من الأوقع السعى لتحقيق «حل الدولة الواحدة»، يجمع الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى، على أرض واحدة وبهوية مشتركة، وهنا نجد تباينا فى المواقف والآراء والأهداف فيما بين المروجين لهذه الفكرة حول معنى ومغزى وشكل ومكونات الدولة الواحدة.
ومن أهم الاختلافات، وما يجعل من الصعب توصيف هذا البديل على أنه «حل»، هو أن عددا غير قليل على الجانبين يسعيان لتوظيف حل الدولة الواحدة، ليس لتجميع الشعبين حول هوية مشتركة، وإنما لتغليب هويتهم الوطنية على الهوية الوطنية الأخرى، إسرائيل بالتهجير والمحاصرة الامنية وفلسطين بالتفوق الديموغرافى التدريجى، وهذا ليس بغريب، لأن الخلاف والصراع الفلسطينى الإسرائيلى يدور حول تمسك كليهما بممارسة هويته الوطنية على أرض متنازع عليها.
ويلح البعض على الفلسطينيين ان هدفهم مشروع فى إقامة دولة وطنية فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وأتفق معهم فى ذلك، وإنما يخطئ من يتصور من هؤلاء ان هذا الحق سيترجم إلى واقع ويتبلور إلى حقيقة وحده، لمجرد أنهم على صواب، وأكبر دليل على ذلك أن إسرائيل تواصل توسعها عبر عقود من الزمن، بل وان تصور الشرعية الدولية لتحقيق الدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة قد انحصر كذلك إلى 22% مما كان مخصصا لها وفقا لقرار التقسيم رقم 181 فى نوفمبر 1947، الداعى إلى إقامة دولة يهودية وأخرى فلسطينية، فالزمن وحده لا يلبى الحق، أو حتى يحافظ على أسس الشرعية، إذا لم يبذل جهدا لترجمته إلى واقع.
ولتبرير القبول بحل الدولة الواحدة، يدفع آخرون بأن الفلسطينيين وحدهم تمرسوا فى إضاعة الفرص للتوصل إلى حل برفض الأمر الواقع، مقتبسين فى ذلك مقولة أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل السابق، ويطالبون الفلسطينيين بقبول المطروح من منظور الواقعية السياسية، حتى إذا كان ذلك فى نقيض كامل للشرعية والحقوق، وهم فى ذلك غير منصفين، لأن التى يتم الاستناد عليها من امثلة جاءت أغلبها فى سياق ظروف فلسطينية كارثية تم فيها احتلال أرضهم، لذا من الطبيعى ألا تقبل.
والخطأ الفلسطينى والعربى لم يكن فى رفض الأمر الواقع الظالم وغير المشروع حينذاك، إنما بعد ذلك فى عدم استعادة الأرض كلما أتيحت فرصة لذلك، مع مواصلة الجهد والسعى بسبل مختلفة لاستعادة المزيد منها واستكمال الحقوق نحو اقامة دولتهم، طالما ظلت الخطوة والفرصة المتاحة فى سياق الحفاظ على الهوية الوطنية وترسيخها واستعادة الأرض، وهو ما تقوم به إسرائيل على الدوام فى اتصالاتها الخارجية وفى فرض الأمر الواقع غير مشروع على الأرض المحتلة.
وأود تسجيل تقديرى لموقف الرئيس الراحل ياسر عرفات فى السبعينيات بقبول قرار مجلس الأمن 242، مؤكدا على تمسك فلسطين بالسلام الكامل، وعلى أساس انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة، مما وضع إقامة الدولة الفلسطينية وقضيتهم فى صميم مساعى السلام، موقف عكس حكمة وقراءة سليمة للواقع الدولى، وشجاعة سياسية فى اتخاذ قرارات صعبة، وإنما لا تمس بل تدعم الحق الفلسطينى، وتقدير مستحق أسجله كذلك لأبى مازن لقراءته السياسية وشجاعته فى دفع المسار التفاوضى الفلسطينى الإسرائيلى الذى انتهى إلى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مقدرا أن النزاع قائم وإنما وسائله وسبله متعددة، ومقدرا ان فرض إسرائيل للأمر الواقع دون رد الفعل خطر على المصلحة الفلسطينية.
لا يعنى ذلك أن الجانب الفلسطينى لم يخطئ، إزاء بعض الاقتراحات غير المكتملة التى وفرت مساحة مهمة للتحرك نحو الأهداف الفلسطينية، فكان من الأفضل قبول عرفات بتحفظات لعناصر ومبادئ الرئيس كلينتون عام 2000، للبناء عليها واستكمالها، كما وفرت اقتراحات رئيس الوزراء أولمرت لأبى مازن حول القدس وغيرها فرصة تاريخية وايجابية كان يجب انتهازها واستثمارها من أجل بلورتها بشكل يرضى الطموح المشروع الفلسطينى لإقامة عاصمة فى القدس الشرقية.
إن السياسات الإسرائيلية هى التى وقفت حجر عثرة أمام تحقيق السلام العربى الإسرائيلى، والغالبية فيها لا تؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدودها، وبعضهم يرون أن واقع الدولة الواحد وسيلة لبتر الأمل فى إقامة دولة وطنية فلسطينية، وليس حلا يوفر هوية وطنية مشتركة، فى إطار دولة واحدة، ولا يطرح على بالهم على الإطلاق فكرة التنازل عن الهوية الإسرائيلية.
وتأكيدا لهذه المواقف صرح أخيرا وزير الدفاع الإسرائيلى جانتس، الذى يمثل يمين الوسط السياسى، بأن دولة إسرائيل لن تكون دولة «ثنائية القومية»، وأن «حل الدولتين وهم»، استبدل ذلك بأهمية تعزيز الحوكمة لدى الفلسطينيين ليستطيعوا تصريف شئونهم بشكل أفضل، واستطرد ليؤكد على أن تصور الحياة بجوار دولة فلسطينية مستقلة، أو فى دولة إسرائيلية دون عرب، ليس إلا «وهما لليسار واليمين الإسرائيلى»، كما أشار إلى أن هناك قرى خارج ضواحى القدس يمكن ان يرتبط بها الفلسطينيون مما يعكس أن تصوراته تقترب إلى منح الفلسطينيين شكلا من أشكال المحليات، وإذا أعيد انتخاب نتنياهو أو شكل تحالفا يمينيا بعد الانتخابات سنشهد تسريعا فى تحرك اليمين، لتثبيت رؤيتهم قبل الانتخابات الأمريكية القادمة مع توظيف أى «مخاطر» للاتفاق النووى مع إيران لهذه الأغراض.
أعتقد أننا نقترب من واقع ازمة الدولة الواحدة، والذى لن يعد حلا، وأرجو ان يتحرك الفلسطينيون سريعا لمواجهة هذا الواقع الخطير من خلال تنشيط تحركهم الدولى تمسكا بحل الدولتين، وتسليط الأضواء على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال وعلى مخالفات إسرائيل القانونية كدولة احتلال فى تعاملها مع الفلسطينيين، الأمر الذى له صدى متنامٍ مع الأجيال الجديدة دوليا، ومخاطبة الداخل الإسرائيلى بمختلف فئاته وطوائفه، لإبراز فوائد السلام والتحذير من ويلات استمرار النزاع أو أطروحات خبيثة لا تحقق السلام وتغذى الصراع والأزمات مستقبلا، ولم الشمل وتصويب طريق العمل الفلسطينى تأمينا لكفاءة الأداء ووصول الرسالة الوطنية الفلسطينية.