الأقصى.. وتفاهمات «الوضع الراهن»

يحيى عبدالله
يحيى عبدالله

آخر تحديث: الخميس 5 سبتمبر 2024 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

تعود تفاهمات «الوضع الراهن»، بشأن تنظيم إدارة شئون الأماكن المقدسة بفلسطين، إلى عام 1852م، حين عيَّن السلطان العثمانى، عبد المجيد الأول، لجنة لتسوية الخلاف الذى نشب بين الإمبراطورية العثمانية والكنيسة الكاثوليكية. فى 8 فبراير 1852م، أصدر السلطان، عبد المجيد الأول، فرمانا ينص على أن يبقى الوضع الذى كان سائدا فى الأماكن المقدسة، حتى ذلك الوقت، على ما هو عليه؛ وهو فرمان يُعرف باسم «بيان الوضع الراهن». أقر برلمان برلين هذا الاتفاق عام 1878م، بعد أن وسَّع نطاقه ليشمل الحرم القدسى الشريف، أو ما يُعرف فى الخطاب الدينى اليهودى باسم (جبل البيت/الهيكل).

فى عام 1919م جرى التوافق بين الزعيم الصهيونى، حييم فايتسمان، والأمير فيصل ابن الحسين، ملك الحجاز، على أن تكون هناك سيطرة إسلامية على الأماكن الإسلامية المقدسة، بما فيها الحرم القدسى الشريف، وقد احترمت سلطات الانتداب البريطانى، اتفاق برلين واللوائح التى نص عليها «بيان الوضع الراهن» فى 1852م. بعد حرب يونيو 1967م، واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية، وتطبيقها القانون والقضاء الإسرائيلييْن عليها، بما فى ذلك الحرم القدسى الشريف، تبلورت تفاهمات جديدة بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة «الوقف» الإسلامى بالمدينة التى تتبع الحكومة الأردنية، نصت على أن لليهود الحق فى زيارة الحرم القدسى الشريف، (جبل البيت/الهيكل) وليس على حق الصلاة فيه؛ وقد احترم الطرف الإسرائيلى تفاهمات الوضع الراهن إلى أن اعتلى بنيامين الحكم عام 1996م، حيث انهارت التفاهمات بين إسرائيل وإدارة «الوقف»، بحسب البروفيسور، يتسحاق راينر، الباحث بمعهد القدس للبحوث السياسية، فى أعقاب افتتاح الحكومة الإسرائيلية للمخرج الشمالى لنفق حائط البراق (الحائط الغربى/حائط المبكى)، تمهيدا لتحويل المصلى المروانى إلى مكان للصلاة لليهود؛ وانهارت بعد اقتحام أريئيل شارون للحرم القدسى الشريف، محاطا برجال الشرطة، فى سبتمبر 2000م.
وابتداء من عام 2010م، بدأت الشرطة الإسرائيلية، نفسها، فى تمكين جماعات «أنصار الهيكل» وجماعات مماثلة، من الصلاة بداخل الحرم القدسى الشريف، بأعداد كبيرة، مع تأمينهم؛ ثم طرأ تغيير حاد على «الوضع الراهن»، فى بداية عام 2021م، حيث بدأ زوار يهود فى تنظيم دروس دينية وإقامة صلوات بالمكان، دون أن تتدخل الشرطة، إلى أن وصلنا إلى اقتحام وزير الأمن القومى الإسرائيلى، نفسه، المسئول عن الشرطة، إيتمار بن جفير، ساحات الحرم القدسى الشريف فى 26 أغسطس 2024م، وتصريحه بشأن إمكانية إقامة كنيس يهودى فى المكان، ودعوته إلى تمكين اليهود من الصلاة بداخله.
• • •
باستثناء بضع بيانات روتينية، عقيمة، أصدرتها وزارات الخارجية ببعض الدول العربية لمجرد إبراء الذمة، مرت التصريحات التى أدلى بها بن جفير، مرور الكرام، رغم خطورتها، ورغم ما بها من جوانب كاشفة للموقف الحقيقى، الذى يتبناه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خاصة، وللنوايا الإسرائيلية، عامة، فيما يخص الحرم القدسى الشريف والمسجد الأقصى. ليست هذه المرة الأولى التى يقتحم فيها بن جفير ساحات الأقصى، أو يدلى فيها بتصريحات حول هذا الموضوع الحساس. فقد سبق ونظم فى الثالث عشر من شهر أغسطس لهذا العام، هو ومجموعة من الوزراء والنشطاء اليمينيين، اقتحاما جماعيا لساحات المسجد الأقصى ضم ما يقارب الثلاثة آلاف شخص، وثقت الصور التى بثتها وسائل الإعلام العشرات منهم وهم يؤدون صلوات ويسجدون على الأرض، وينشدون النشيد القومى الإسرائيلى، ويرقصون، ويرفعون الأعلام الإسرائيلية. وصرح بن جفير، ساعتها، بأن سياسته ـ أى سياسة وزارة الأمن القومى التى يرأسها ــ هى «تمكين اليهود من الصلاة فى (جبل البيت)»، وبأن اقتحامه للأقصى تم «بعلم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وبتصديق منه».
• • •
ثمة إشارات عديدة على أن هناك توجها رسميا إسرائيليا لتغيير المعادلة فى الحرم القدسى الشريف. منها: تعقيب وزير التعليم، يوآف كيش، على اقتحام بن جفير للأقصى، وتصريحاته بشأن إقامة كنيس بساحته، الذى قال فيه «أى تغيير فى الوضع الراهن بـ(جبل البيت)، خاصة فى وقت حرب، يجب أن يتم باحترافية داخل الكابينيت (المجلس الوزارى المصغر للشئون الأمنية والسياسية) مع دراسة كل الدلائل والتداعيات»، ومنها تضمين حزب «الليكود»، الحاكم، برنامجه الانتخابى فقرة تقول: «سيعمل الليكود فى الولاية القادمة على إيجاد حل يتيح لليهود حرية ممارسة الشعائر الدينية بـ (جبل البيت)»، ومنها، تقديم عضو الكنيست، عن حزب «الليكود»، ميرى ريجف، بالتعاون مع عضو الكنيست عن حزب «العمل»، حيليك بار، مشروع قانون إلى الكنيست، فى شهر مايو من هذا العام، يطالب بتغيير «الوضع الراهن» فى الحرم القدسى، ومنها تحريض أفراد من المؤسسة الدينية الرسمية، علنا، على محو المسجد الأقصى من الوجود، منهم الحاخام، شموئيل إلياهو، حاخام مدينة صفد، الذى قال فى مايو 2021م: «المملكة التى نحلم بها تعرف كيف تنتصر على أعدائها وتوقع بهم هزيمة نكراء. لا تترك جرحى ينزفون (لاحظ القسوة وغلظة القلب، اللتين يتغذى عليهما جنود الاحتلال!) فى الميدان يخططون للحرب القادمة. للمملكة بهاء وافر. ولا بهاء بدون الهيكل. إنها مملكة تقول بملء الفم إنها تشتهى الهيكل، حتى إذا اضطررنا إلى محو المساجد من فوق هذا الجبل المقدس».
ومنها إصدار أعلى هيئة قضائية فى إسرائيل ــ محكمة العدل العليا ــ فتوى قانونية عام 1993م تجيز، من حيث المبدأ، (حق) كل يهودى فى الصلاة فى ما يُسمَّى (جبل البيت)، لكنها ربطت هذا الـ(حق)، المزعوم، بعدم إلحاق ضرر بالمصلحة العامة. وهذا هو نص الفتوى القانونية: «نقطة الانطلاق المبدئية هى أن لكل يهودى (الحق) فى الصعود إلى (جبل البيت)، والصلاة به. هذا جزء من حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ جزء من حرية التعبير، لكن هذا (الحق) شأنه شأن أى حق من حقوق الإنسان، ليس حقا مطلقا. إنه حق نسبى (...) فإذا تُيقن أن ضررا فعليا سيلحق بالمصلحة العامة إذا مورس الحق الإنسانى فى ممارسة الشعائر الدينية وفى حرية التعبير، فإنه يجوز تقييد هذا الحق الإنسانى من أجل تحقيق المصلحة العامة».
• • •
الأمر، إذا، ليس خبطا عشواء. ليس ارتجالا من شخص حرفته الاستفزاز، مثل بن جفير، وإنما أمر مدروس، وممنهج، يحظى بتوافق. يتصاعد من وقت لآخر. هدفه تهيئة البيئة الداخلية، والخارجية، أيضا، ليوم سيتغير فيه، حتما، «الوضع الراهن» فى الحرم القدسى، إذا لم يكن هناك تحرك عربى وإسلامى جاد يلجم بن جفير ومن وراءه.
لقد ضم نتنياهو بن جفير إلى ائتلافه الحاكم وهو يعرف أن ماضيه إجرامى، وأنه سبق أن أدين بالانتماء لتنظيم إرهابى ـ تنظيم «كاخ» العنصرى، بزعامة المأفون، الحاخام، ميئير كهنا ـ وبالتحريض على العنصرية. لم يكن ضمه للائتلاف الحكومى خيار ضرورة، كما يقال، وإنما فرضه التجانس الأيديولوجي، والتناغم الفكرى بين أجندة الحزبين اللذين يتزعمهما الرجلان، «ليكود»، و«عوتسما يهوديت». يخدم وجود بن جفير فى الائتلاف الحكومى أهداف ونوايا نتنياهو. بن جفير أهم لديه، فى نظر مامى بئير، من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد الأشخاص الأكثر تأثيرا فى الحكومة الإسرائيلية، طبقا لـ بن درور يمينى. يتجاوز رد الفعل، الضعيف، من جانب نتنياهو على تصرفات بن جفير، مسألة الخوف من انفراط عقد ائتلافه الحكومى، كما يقول البعض، إلى الرضا التام عن هذه التصرفات المنفلتة. ويذهب، يوفال كرنى، إلى أن نتنياهو «يطبَع، بالفعل، تغيير الوضع الراهن الذى يحدده بن جفير» فى الحرم القدسى.
من ناحية ثانية، تكشف التصريحات الأخيرة لبن جفير، أن نتنياهو، نفسه، يسعى إلى تغيير«الوضع الراهن» فى الحرم القدسي؛ إذ قال بن جفير، فى حديث لإذاعة الجيش الإسرائيلي، إن «سياسة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، خلافا لما يقوله (ويصرح به فى العلن)، هى أن بوسع اليهود أن يصلوا فى (جبل البيت)»، وحين سُئل عن إمكانية إقامة كنيس فى المكان أجاب: «لو كنتُ أستطيع فعل ما أريد لأقيم هنا، أيضا، كنيسا بـ(جبل البيت)». صحيحٌ، أن نتنياهو علَّق هذه المرة، أيضا، على تصريحات بن جفير، التعليق المعتاد بأنه «لا يوجد تغيير فى الوضع الراهن». لكن بن جفير، وأقطاب حزبه لا يلقون بالًا إلى كلام نتنياهو ولا إلى كلام شركائهم فى الحكومة، بحسب، ليئور بن أرى. إذ قرر وزير التراث اليهودى، عميحاى إلياهو، عضو حزب بن جفير، بحسب ما نشرت هيئة البث الإسرائيلية، تحويل مليونَىْ شيكل من مخصصات وزارته من أجل تنظيم جولات لعشرات الآلاف من اليهود، بتمويل من الدولة، للمرة الأولى، ولمئات الآلاف من السياح، الذين يزورون الحرم القدسى كل عام، مع الاستماع إلى شرح إرشادى بساحاته، حول ما تسميه الوزارة «التراث اليهودى» بالمكان مع تقديم رواية تاريخية بديلة للرواية الإسلامية.
حصلت الوزارة، بضغط من بن جفير، وزير الأمن القومى، على التصاريح المطلوبة من الشرطة الإسرائيلية، التى «تغض الطرف، طبقا لشواهد عديدة، نشرت مؤخرا عن تغيير السياسة»، فى منطقة الحرم القدسى، بحسب ليئور بن أرى. تدرك إسرائيل أن اللحظة مواتية لتغيير الوضع، فى ظل صمت الأنظمة، العربية والإسلامية، وفى ظل تبلد الشعوب وعدم اكتراثها.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved