ناهد الشافعى.. وخالها موريس

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 5 أكتوبر 2012 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

نصحنى صديق أثق فى حاسته الأدبية بقراءة كتاب بعنوان «طيار طار حلمه» كتبته محررة فى مجلة صباح الخير هى ناهد الشافعى. وقال لى إنه يصف أحوال الطبقة الوسطى من المصريين وما يعانونه فى حياتهم اليومية، بطريقة أدبية رفيعة. وإمعانا فى التأكيد علىّ بضرورة قراءة الكتاب أعطانى نسخة منه. قرأت الكتاب فوجدت أن صديقى محق تماما، إذ وجدت الكتاب ممتعا ومؤثرا وظريفا، ويزيد من معرفتى بأحوال هذه الطبقة التى يتكلم عنها.

 

ليس من السهل بالطبع على أى شخص أن يحدد ما هى شروط الأدب الرفيع، ولكن لا بأس من المحاولة. وأستطيع أن أقول بناء على خبرتى المتواضعة (لا فى قراءة ما كتبه بعض الكتاب العظام فى تعريف الأدب الرفيع، فهذا لا أجد طائلا كبيرا من ورائه، ولكن فى قراءة أمثلة كثيرة من الأدب الرفيع وغير الرفيع) إنه لا يكفى أن يكون أسلوب الكاتب سلسا وغير معقد، ولغته طيّعة، وأن يكون الكاتب حكّاء ماهرا، أى يعرف كيف يروى حكايته بطريقة مشوقة، وأن يترك لدى القارئ شعورا بأنه يقول له الصدق ولا عدة عليه، وأن يكون ظريفا وقادرا على رؤية الجانب الطريف فيما يحكيه. بل لا بدّ أن يتوافر أيضا شرط آخر مهم (أو هكذا أعتقد) وهو «نبل المعنى». قد نختلف بالطبع حول ما يعتبر وما لا يعتبر «معنى نبيلا» (بل وقد يشكك البعض فى ضرورة هذا الشرط أصلا لكى يكون الأدب رفيعا) ولكنى، على أى حال وجدت هذا كله فى كتاب ناهد الشافعى (طيار طار حلمه، مكتبة مدبولى، 2010)، فكدت أطير (أنا أيضا) فرحا بالكتاب. نعم، إن اللغة العامية منتشرة بشدة فى الكتاب، ولكنى أعتقد أن علينا التمييز بين الحالات التى يعتبر فيها استخدام العامية جائزا أو غير جائز، مطلوبا أو غير مطلوب، فضلا بالطبع عن التسليم بأن اللغة العامية ليست واحدة، فهناك منها أيضا الرفيع والدنىء، ما ينتمى إلى لغة الأدب، وما يتسم بقلّته.

 

سأضرب بسرعة مثلين من الكتاب لتعريف القارئ بما يحتويه. فى فصل قصير يحمل نفس عنوان الكتاب، يدور حوار بين رجل وابنه الذى تخرج حديثا بتفوق فى الجامعة وكان يأمل ويشعر بأنه يستحق أن يعين معيدا فى كليته، فإذا بنا نكتشف من الحوار أن الابن يخفى عن أبيه حقيقة مهمة خوفا من أن يصاب أبوه بصدمة عنيفة. هذه الحقيقة المهمة هى أن الابن، بعد أن يئس من الحصول على وظيفة لها أى علاقة بتخصصه ومؤهله، بل كاد أن ييئس من الحصول على أى وظيفة على الإطلاق، قبل فى النهاية أن يتوسط له صديق يملك أبوه مطعما يقوم بتوصيل الوجبات للمنازل، كى يعمل عنده «طيارا»، وهو الوصف المستخدم لمن يعمل فى توصل الطلبات بالموتوسيكل، وانه لهذا السبب ينام فى الصباح ويخرج فى الليل، إذ إن الوظيفة الوحيدة المتاحة الآن هى توصيل الطلبات ليلا.

 

فى فصل آخر يدور الحوار بين الرجل وزوجته حول غياب الخادمة (أم سيد)، عدة أيام بسبب انشغالها فى محاولة الحصول على أنبوبة بوتاجاز. انقطعت أم سيد عن العمل لمدة عشرة أيام، كانت خلالهما تخرج فى الفجر، على أمل الحصول على أنبوبة، ولا تعود إلا فى آخر النهار بلا نتيجة. خلال كل يوم من هذه الأيام ضاع عليها خمسون جنيها كانت تتقاضاها من الشقق التى تخدم بها فلم تستطع الذهاب إليها بسبب الأنبوبة، عندما عادت إلى العمل، بعد نجاحها فى الحصول على أنبوبة، وصفت حالها لمخدومها على النحو التالى: «كل يوم كنت أقف، بصراحة أقعد، أحط الأنبوبة وأقعد عليها. تيجى العربية بتاعة الأنابيب، أشيلها وأجرى. مش عارفة إيه اللى بيحصل، ما حدّش يلحق ياخذ حاجة.. وبعد شوية تلاقى السريحة ماشيين بيبيعوا. الأول كان السعر عشرة جنيه، وبعدين بقى خمستاشر، وأنا مالحقتش اشترى إلا لما السعر وصل عشرين».

 

عندما سألها مخدومها، ما الذى كانت تفعله من غير أنبوبة، طوال هذه المدة، قالت «زى الناس كلها ما عملت. رجعت لوابور الجاز.. عينى طلعت يا بيه.. أصل ابر الوابور مابقتش موجودة زى زمان.. الله يرحم أيام البياعين اللى كانوا بيبيعوا فى الاتوبيسات». وعندما سألها لماذا لم تحاول أن يكون لديها أنبوبة احتياطى مثلما يفعل الجميع، قالت إنها كان عندها أنبوبة احتياطى ولكن باعتها لأن ابنها كان عايز «موباين» بالكاميرا. وعندما أبدى الرجل استغرابه، قالت «وأنا يعنى باشتغل وأشقى عشان مين؟ مش عشان العيال؟». ثم أضافت أنها اشترت أنبوبة أخرى احتياطى ولكنها أعطتها لابنتها عندما تزوجت.

 

●●●

لم يكن هذا الكتاب الممتاز سعيد الحظ (مثل الكثير من الكتب الممتازة). لقد عرض الكتاب بدرجة عالية من الشمول والبلاغة الأسباب المختلفة التى يمكن أن تدفع المصريين إلى الثورة، ولكن الثورة قامت بالفعل بعد أسابيع قليلة من صدور الكتاب، فلم يعد أحد يفكر فى شىء غير الثورة، ولم تعد الصحف والمجلات تكتب عن الكتب الجديدة ولا عن أى شىء آخر غير ميدان التحرير.

 

قلت لنفسى: «لا بأس، فالكتاب الجيد سوف يقرأه الناس ويعطونه حقه، طال الزمن أم قصر، والموهبة الحقيقية سوف تكتشف عاجلا أم آجلا». وقد حدث ما جعل ناهد الشافعى تشعر بضرورة أن تكتب من جديد، وعن موضوع معين دون غيره، فكتبت بالفعل مقالا بديعا فى مجلة صباح الخير (25/9/2012)، وشعرت أنا بدورى بضرورة تنبيه القراء إليه.

 

المقال يحمل عنوانا لافتا للنظر «خالى موريس: انت فين؟ فالكاتبة، التى يتضح من اسمها أنها مسلمة، تكتب عن خالها القبطى، وهو أمر ممكن طبعا، لكن المبهر حقا هو ما حكته ناهد الشافعى عن خالها موريس، وكم أحبّته، وكيف كان يعاملها هى وإخوتها المسلمين، وكيف كانت علاقتها هى وإخوتها بأولاد وبنات خالها الأقباط.

 

كان من الواضح من السطور الأولى فى الماقل أن الذى دفعها إلى كتابته هو ما روته الصحف عن حادث وقع منذ أسابيع قليلة أثناء مهاجمة السفارة الأمريكية احتجاجا على الفيلم المسىء للإسلام، وهو ما ذكرته ناهد الشافعى بقولها: «إن رجلا قام بحرق الإنجيل أمام الجميع، ولم يتخذ أحد أى إجراء ضده حتى الآن. بالعكس، أصبح هذا الرجل ضيفا فى برامج (التوك شو)، يستضيفونه بحجة المهنية، فيأتى ليكرر كلامه ويؤكد فخره بما فعل». ثم تضيف: «ويعيد إهانته لخالى موريس مرات ومرات، فيزيد ألمى وخجلى من خالى الراحل الجميل، فلا أعرف ماذا أقول، ولا كيف أعتذر له».

 

هكذا بدأت المقال، ولكنها بعد ذلك تصف ببساطة وعذوبة، شخصية خالها موريس، وكيف كان يعامل أولاد أخته المسلمة، وكيف كان الجميع، هى وإخوتها وأولاد خالها، يقضون كل صيف فى بيت خالها فى المنصورة، وكيف كان خالها يحبّ الحمام الذى يربيّه، ويشرح لأخيها أحمد عادات وطباع الحمام وطرق تربيته، فينبهر أحمد «بقدرة خالى موريس على فهم هذا الطائر الصغير الذى يطير ويبتعد ثم يعود إلى عشّه فى منزل خالى مثلنا تماما» ثم تذكر كيف كان خالها موريس يتصرف فى أيام أعياد الأقباط أثناء صيام المسلمين فى رمضان. تقول: «أجمل أيامنا كانت عندما تجمعنا الأعياد. فصمم أحمد وهانى وأنا على أن نذهب معهم إلى الكنيسة لنحتفل، وعندما يعلو صوت أبونا صائحا (المسيح قام) نهلل مع زغاريد النساء ونعلن دخول يوم العيد، فنجرى عائدين إلى بيت خالى لنأكل فتّة ولحما أعدته جدتى بعد الصيام الكبير». أما فى رمضان «فكان الجميع يتناولون فطورهم فى الصباح وقوفا فى المطبخ حتى لا نراهم، ويؤخر خالى موعد الغداء إلى وقت المغرب لنأكل معا. وتنهض أمى أو جدتى قبل الفجر لتعد لنا ساندوتشات السحور نتناولها فى السرير نصف نيام!».

 

ذكرنى هذا الكلام الجميل بفقرة جميلة كتبها الشيخ محمد عبده منذ أكثر من مائة عام فى كتابة «الإسلام بين العلم والمدنية» يقول فيها:

 

«أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من الكتابية، نصرانية كانت أو يهودية وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم ان تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه وريحانة نفسه.. وأميرة بيته وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه.. أين أنت من صلة المصاهرة بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم».

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved