بعد أزمة الفيلم المسىء.. مزيد من الحرية أم القمع؟
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 5 أكتوبر 2012 - 8:45 ص
بتوقيت القاهرة
كشفت الأزمة التى اصطُلِحَ على تسميتها بأزمة «الفيلم المسىء»، والتى تسببت فى اندلاع مواجهات عنيفة فى عدة دول، عن عدد من النقاط التى تستثير التأمل، منها أن الجماعات الدينية التى كانت تقدم نفسها للجمهور باعتبارها ممثلة الإسلام، والمدافعة عنه، والحامية له، قد تبنت خطابا أقل حدة مما تبناه الجمهور العادى تجاه الفيلم، ويبدو الأمر منطقيا، لتواكبه مع توليها السلطة، ومع رغبتها فى تدعيم ركائز الاستقرار، وبسط سيطرتها على الأمور.
لقد اضطر الأفراد المنتمون لبعض الجماعات الدينية، إلى التعامل مع الأمر بمفردات مختلفة عن تلك التى اعتادوا عليها، وإلى انتقاء خطاب يراعى توازنات القوى والمصالح السياسية على المستوى الدولى، إذ ما قورن بحملات سابقة، جاءت ردا على أحداث مشابهة، ودعت إلى مقاطعة اقتصادية واسعة النطاق، وكانت ضمن الأدوات الفاعلة والمؤثرة، التى هدفت بشكل كبير إلى إشعال حماسة الجماهير، وكسب ودها، وكذلك إلى إحراج النظام.
ضمت الاحتجاجات الأخيرة أعدادا غفيرة من الشباب وصغار السن، جماهير لا يبدو أن لها علاقة مباشرة بالتنظيمات الدينية المعروفة، وقد أوضحت المشاهد المنقولة فى أغلب وسائل الإعلام، أن هناك من المواطنين العاديين الذى لا ينتمون إلى تيار بعينه، ما هو أكثر بكثير من المواطنين المنظمين فى جماعات وأحزاب. ربما يعنى هذا المشهد أن الجماعات الدينية لم تعد فى أقصى اليمين، وأن فى إمكانية المجتمع إفراز شرائح أكثر وأصدق تشددا، لا تعنيها التوازنات والحسابات الجديدة، هكذا قد تخلو القمة، وينسحب بساط الدين من تحت أقدام بعض المجموعات، التى كانت تجد فيه ملاذا مناسبا، لدغدغة مشاعر الجماهير العريضة، وتأجيجها.
تبنت الحكومة التى تم تشكيلها للمرة الأولى منذ قيام الثورة عن طريق رئيس مدنى منتخب، وبمعزل عن تدخلات المجلس العسكرى، الخطاب نفسه الذى تبنته جميع الحكومات السابقة، فاتهمت المحتجين بتلقى الأموال من أجل التظاهر والتخريب، كما اتهمتهم بالعمل وفق توجيهات قادمة من مصادر غامضة لم يُفصَحُ عنها كما هو معتاد، الأمر الذى يضيف علامة استفهام حول التغير الذى يمكننا توقعه، فى أسلوب التعامل مع الاحتجاجات المتصاعدة.
●●●
يثبت الدين فى كل مرة أنه قادر على حشد الناس بصورة هائلة، وأنه غالبا ما يكون القشة التى تفضى إلى غضب عارم، رغم وجود مناحى كثيرة تظللها المعاناة، يتحرك الناس فور مغازلة مشاعرهم الدينية، ويصبون جام حنقهم وعجزهم واحباطاتهم اليومية فى تلك القناة بعيدا عن جوهر مشكلاتهم، يدرك الناس فطريا أن الغضب للدين مشروع ومقبول ومحبب، ولا يحتاج إلى كثير من التفكير ونتائجه مُرضية أيا كانت، بطولة فى الدنيا وثواب فى الآخرة، ثقافة تحتاج إلى دراسة وجهد حقيقيين، كى يمكن توجيه طاقة الغضب إلى الهدف الصحيح.
يستدعى موقف الأزهر بعض الدهشة، فهو ينحو تجاه مزيد من التشدد، وفرض القيود على حرية التعبير ــ التى لا تعمد إلى السب والقذف وما إلى ذلك من جرائم منصوص عليها فى مختلف القوانين ــ فالأزهر بتأييد من بعض الإسلاميين الوسطيين، يطالب بوثيقة دولية تجرم ازدراء الأديان السماوية، ولا يخفى على أحد أن كلمة ازدراء هى كلمة مطاطة، يمكن ان تتسع لمجرد النفى أو الإنكار، ويمكن أن تسلط سيفا على كثير من الأفكار والأبحاث والأعمال الإبداعية. يفوت هؤلاء كذلك أن «الأديان السماوية» ليست مقدسة عند الجميع، وأن ثمة عقائد غير سماوية مقدسة لدى أصحابها، فإذا اتبُعَ مبدأ العدالة بين الجميع، توسعت رقعة الممنوعات أكثر وأكثر.
رغم أن العمل الإبداعى هنا هو أفضل رد يمكن تقديمه للعالم الذى يتابع القضية شغوفا، تظل المؤسسة الدينية الرسمية على قناعتها، برفض خروج أعمال فنية تدعم موقفها ورسالتها، ويبقى الرد الفنى الوحيد ممثلا فى أغنية يصورها ويلقيها المؤدى شعبان عبدالرحيم.
يثبت بعض النشطاء الحقوقيين، أنهم لا يزالون بعيدين عن قبول حرية الآخر فى التعبير عن أفكاره، فينضم أحد أصحاب المراكز العاملة فى مجال حقوق الإنسان، إلى دعوة ضد بعض صناع الفيلم، كما تقوم ناشطة أخرى بطمس ملصقات حائط تهاجم الجهاديين، وتروج لإسرائيل فى دولة أجنبية، ويتناسى كلاهما أن الطمس والمنع والاختصام والتجريم، كلها أدوات أثبتت التجربة أنها عاجزة عن ردع أى رأى أو فكرة، وقد خرج الشاعر الألمانى جونتر جراس بقصيدته التى اعتُبِرَت هجوما على إسرائيل، رغم القيود المفروضة فى ألمانيا على مثل تلك الأعمال. يردد البعض دعوة متكررة، مفادها حث الغرب على التعامل بشيء من المساواة مع مختلف الشعوب والفئات، عن طريق تجريم المساس بالدين الإسلامى، وإصدار قوانين ملزمة على غرار تلك التى تجرم معاداة السامية؛ لا أرى فى الأمر إلا محاولة تعيسة لفرض القمع على الجميع بالتساوى، وأظن أن الأكثر جدوى منها، هو حث الغرب على إلغاء القوانين المجحفة المقيدة للأفكار، وإعطاء حرية التعبير للجميع، وليس لفئة من البشر دون الأخرى.
●●●
للأسف لا أظن أننا قد ظهرنا بمظهر الأقوياء القادرين على الردع، بل على العكس أعطينا صورة الضعفاء الانفعاليين، الذين يهتاجون لأشياء تُوصَفُ بالحُمق والتفاهة، الفيلم الفقير على جميع المستويات، الفكرية والفنية والتكنولوجية، أفقدنا صوابنا وجعلنا نعتدى على أول من تقع أيدينا عليه حتى لو لم يكن له علاقة بالأمر، ما يخيف هنا فى الحقيقة، لم يكن قوة المسلمين، لكنها عشوائية تصرفاتهم، وصعوبة توقعها باستخدام المنطق، وخروجهم عن أبسط القواعد الأخلاقية التى يكفلها الدين ذاته، الذى زعموا الدفاع عنه.