أبعاد الحراك الثورى فى «بلدان الربيع العربى»

محمود عبد الفضيل
محمود عبد الفضيل

آخر تحديث: السبت 5 أكتوبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

إن الحالة الثورية التى تمر بها ما سميت «بلدان الربيع العربى» هى مخاض ثورى متعدد المراحل. والمرحلة الأولى من تجلياتها كانت العمل على إسقاط نظم الاستبداد والفساد. وبعبارة أخرى العمل على تغيير النظام السياسى برمته. وقد أدى ذلك إلى ظهور خريطة سياسية جديدة اتسمت بظهور قوى لتيارات الإسلام السياسى (الإخوان المسلمين والسلفيين). كما أنه عندما رفع الستار تبين أن هناك ضعفا تنظيميا وقياديا لدى القوى الليبرالية واليسارية خصوصا فى حالة مصر، بينما كان الوضع أفضل فى تونس، نتيجة الوجود الفعال للتنظيمات اليسارية (الحزب الديمقراطى التقدمى وحزب العمال) وللمركزية النقابية المعروفة بالاتحاد العام التونسى للشغل. وكان هذا نتيجة طبيعية لتجريف ومصادرة الحياة السياسية فى ظل النظم الديكتاتورية السائدة فى تلك البلدان (مصر، تونس، سوريا، اليمن).

 ومن هنا كانت الإشكالية الرئيسية التى تواجه النظام الجديد «بعد الثورة» هى أسلوب إدارة التناقضات بين تيارات الإسلام السياسى من ناحية، والقوى الليبرالية واليسارية، من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى الائتلافات الشبابية التى ليس لها انتماء ووعاء تنظيمى موحد. إذ كان هناك فى معظم الأحيان تغليب للتناقضات الثانوية على حساب التناقضات الرئيسية، وتلك كانت واضحة بصفة خاصة فى الحالة المصرية. ونتيجة للضعف التنظيمى والقيادى للقوى الليبرالية واليسارية عمت الانقسامات فى صفوفها، وسادت فى صفوف ائتلافات الشباب، التى فجرت الحراك الثورى، اتجاهات وشعارات اتسمت أحيانا بالنزعة الفوضوية أو ما أسماه البعض «النزق الثورى المراهق».

وقد اتسمت الفترة الانتقالية الأولى بقدر كبير من الارتباك وعدم الاستقرار السياسى، نظرا لأن الثورة هى تعبير عن انهيار النظام القائم، وعن رغبة المجتمع فى إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى يعبر عنها النظام الجديد. وسادت هذه المرحلة حالة من عدم الاستقرار نتيجة عدم وجود بوصلة هادية.

وتلك ظاهره شهدناها فى تجارب أخرى: أندونيسيا بعد سقوط سوهارتو، وفى الأرجنتين بعد انفجار الأوضاع فى ديسمبر 2001 حيث تعاقب على حكم الارجنتين ثلاثة رؤساء فى الفترة ما بين ( 1999 ــ 2002).

●●●

ومع صعود القوى الإسلامية فى مرحلة ما «بعد الثورة» فى مصر وتونس أصبح الصراع يدور حول قضية محورية: التمكين الديمقراطى العام للمجتمع مقابل مشروع التمكين الإسلامى الذى تسعى له القوى الإسلامية.

ونظرا لأن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمظالم الكبيرة التى وقعت على قطاعات عريضة من شعوب «بلدان الربيع العربى»، فإن الموجة الثانية للثورة المستمرة سوف تركز على تغيير مقومات النظام الاقتصادى ــ الاجتماعى، وذلك لأن النظام الاقتصادى فى ظل الموجة الأولى ظل على ما هو عليه مع تغيرات طفيفة. إذ ظل النظام الاقتصادى يقوم على آليات اقتصاد السوق بلا ضوابط اجتماعية، وأن «الاقتصاد الاسلامى» الذى تم التبشير به كان فى نهاية المطاف اقتصاد سوق تسيطر عليه عناصر الرأسمالية التجارية الجديدة.

 وهذه الفئة تمثل الشريحة الثانية التى تلى عناصر الرأسمالية الاحتكارية الكبيرة التى تم سقوطها مع سقوط النظام القديم، وبشكل عام لم تخرج المعادلة عن الخطوط العريضة لتوافق واشنطن الذى يقوم على تحرير الأسواق والخصخصة والاندماج فى اقتصاد العولمة.

●●●

ومن هنا توقع محللون كثيرون فشل حكومات الإسلام السياسى على المدى المتوسط فى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، لأنه لا حل لديهم للقضية المركزية التى أشعلت حريق الثورات العربية، وهى السعى نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الممارسات الاقتصادية التى تقوم على الاستغلال الاقتصادى والقهر الاجتماعى.

 ووفقا للنموذج الاقتصادى الذى ساد «فى بلدان الربيع العربى» يتم امتصاص العمالة من خلال خمس قطاعات رئيسية:

 • قطاع الإدارة الحكومية: وقد وصل إلى حد التشبع ويصعب إضافة أيد عاملة جديدة إليه نظرا لأنه يعانى من قدر كبير من التكدس.

 • قطاع الأعمال العام: وهو يعانى حالة من الركود والتراجع نظرا للسياسات العامة التى تقوم على تحجيم دوره فى الحياة الاقتصادية، وهو يقوم بتسريح العمالة بدلا من توظيفها.

 • القطاع الخاص «المنظم»: حيث يعانى هذا القطاع من توسع محدود نتيجة ضعف الحوافز وارتفاع درجة اللايقين حول توقعات المستقبل.

 • القطاع الخارجى: وهو الذى سمح بتصدير الأيدى العاملة إلى بلدان الخليج، وقد بدأت معدلات الهجرة فى التباطؤ مقارنة بما كان عليه الحال فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى.

 • يبقى القطاع غير الرسمى: وهو الذى يقع عليه عبء استيعاب الأعداد الكبيرة التى لا تجد لها فرص توظف فى القطاعات الأربعة السابقة. وهو بالتالى أصبح يتكدس به أعداد كبيرة من الباحثين عن عمل، فى بلدان الربيع العربى ولا سيما مصر وتونس واليمن، باعتباره (الملاذ الأخير). وهو القطاع الذى كان ينتمى إليه محمد البوعزيزى الذى فجر شرارة الثورة التونسية. ونتيجة لزيادة الضغوط على هذا القطاع يتم نوع من تقنين ساعات العمل بين المتعاملين فى هذا القطاع وبالتالى تقليص أرزاقهم.

●●●

ومع طول فترات الانتظار للعاطلين، يشير الاقتصادى الأمريكى المرموق بول كروجمان إلى أن المسألة الرئيسية تصبح: «ما إذا كان العاملون المتعطلون لمدد طويلة سوف ينظر إليهم فى نهاية المطاف باعتبارهم غير صالحين للعمل أو كسلع معطوبة فى سوق العمل لن يشتريها أحد، إذ سيكون الاختيار دوما لصالح الذين سبق لهم العمل. وهكذا تتعمق مشكلة البطالة المزمنة فى تلك البلاد.

ولذا لا بد أن تأتى الثورات العربية بعقد اجتماعى جديد يقرر حقوقا اقتصادية واجتماعية جديدة وليس مجرد حريات سياسية، والانخراط فى مشروع للتنمية يعطى للجماهير الأمل فى الرقى والتحديث. وهذا يتطلب بدوره تعديلا فى ميزان القوى السياسية عن طريق انتخابات نزيهة كما حدث فى بلدان أمريكا اللاتينية (البرازيل، تشيلى، الارجنتين، فنزويلا) أو من خلال انتفاضة شعبية جديدة.

وتعتبر تجربة الانتقال الديمقراطى فى أمريكا اللاتينية ذات أهمية كبرى بالنسبة لبلدان المنطقة العربية، وأكثر دلالة مقارنة بتجربة الانتقال الديمقراطى فى بلدان أوروبا الشرقية التى كان لها نقطة انطلاق مختلفة حيث كان الانتقال من نظام التخطيط المركزى فى الاقتصاد والنظام الشمولى فى الحياة السياسية على عكس تجربة بلدان أمريكا اللاتينية التى نجحت فى التحول إلى الديمقراطية من نظم اتسمت بالفساد والاستبداد على نحو ما شاهدناه فى المنطقة العربية.

 

أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved