من وحى المناظرة الرئاسية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 5 أكتوبر 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
انتهت الحلقة الأولى من سلسلة المناظرات الثلاث، التى استعد لخوضها مرشحا الرئاسة الأمريكية عن الحزبين الكبيرين بالولايات المتحدة الأمريكية.
بصفة عامة استقبل الشارع الأمريكى نتائج المناظرة بخيبة أمل. منح المتناظران «ترامب» و«بايدن» للإعلام مادة خصبة قوامها ساعة ونصف الساعة من المقاطعات والشتائم والتلاسن والخوض فى أمور عائلية، ولم يتركا إلا القليل الكاشف عن معلومات تفيد المواطن الأمريكى.
كان المرشح الديمقراطى قد انتبه إلى هذا، وظل يوجه حديثه طوال الوقت للناخب الأمريكى، يجتمع جسمه كله تجاه الشاشة وجمهور المسرح، يبتسم بحرص وثبات مصطنع، يشير صراحة إلى أنه لم يأت للخوض فى أمور عائلية، وإن فعل لقضى الليلة كلها فى حديث عن عائلة ترامب، وهى إشارة ذكية تقول الكثير دون أن تهدر وقتا..
أما الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فقد كان ينظر إلى «بايدن» طوال الوقت، يشتبك معه فى كل جملة تقريبا، يصفه بأنه الأخير على فصله، الفاشل فى دراسته، يصف فترة رئاسة أوباما التى حل فيها «بايدن» نائبا للرئيس بأنها نقلت البلد إلى إدارته خاسرة مهلهلة. وإذ كان الجميع يتوقعون من «بايدن» تركيزا أقل واهتزازا أمام اتهامات «ترامب» التى ظل يكيلها لمنافسه قبل موعد المناظرة بكثير، حتى إن إجراءات محاكمته أمام الكونجرس كان موضوعها ابن «بايدن» ومكاسبه فى شرق أوروبا، فقد ظهر أداء المرشح الديمقراطى أعلى من المتوقع، بل أزعم أنه لم يقل للرئيس الأمريكى «اخرس» أو أنت «مهرج» أو «أنت لا تعرف شيئا عما تقول» أو «أنت أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة».. لم يقل أيا من هذا بشكل انفعالى أو خارجا عن طوره.. بل قال ذلك بهدوء غريب وكأن حملته أعدت له ومرنته عليه طويلا!
فإذا كان ترامب شعبويا يراهن على الناخب الأبيض البسيط الزاهد فى مؤسسات الدولة واصطناعها للوقار، الذى يشاهد مباريات المصارعة الحرة ويصدقها وإن كانت مفبركة حتى آخر لكمة، الذى يبيت بعد المناظرة متندرا بشتيمة أو اتهام قوى وجهه «ترامب» لهذا أو ذاك، الذى يكره أن يزاحمه فى رزقه مهاجرون وملونون، ووجد أخيرا من لا يدينه إن أظهر ذلك.. فإن صمت «بايدن» أو انسحابه جراء المقاطعات أو انفجاره غاضبا كان ليمنح الرئيس الأمريكى انتصارا مذهلا بين مؤيديه، لذا فقد بدا الخروج عن الوقار من جانب «بايدن» محسوبا، والهجوم منظما حتى أننى لم أر الرئيس الأمريكى انتبه أو امتعض من أى من تلك الشتائم، وكأنه لم يحسب لها حسابا، أو أنه لم يكن فى حالته الطبيعية كما لاحظت وغيرى من المشاهدين، ومرد ذلك يمكن أن يكون شعوره المبكر بوعكة صحية، تبين بعد يومين أنها إصابة بفيروس «كورونا» اللعين التى نسأل الله أن يشفيه منها.
***
كانت المناظرة الأولى (وربما الأخيرة إن لم يتعاف الرئيس الأمريكى سريعا من مرضه) تقوم على مفاصل محددة، هى التى حسمت استطلاعات الرأى لصالح نائب الرئيس السابق «جو بايدن».. أهم تلك المفاصل كان فيروس كوفيد ــ 19 الذى قلل «ترامب» من أهميته وأخر الاستعداد الجاد لمجابهته، حتى أصبحت حالات الإصابة فى الولايات المتحدة من الأسوأ عالميا. وقد استعد «ترامب» بهجوم مضاد يخاطب فيه المواطن المنهك اقتصاديا من خطورة الإغلاق الذى تبنته الولايات المحكومة من الديمقراطيين، والذى يدعو إليه «بايدن» باستمرار، حتى إنه سخر من «بايدن» كونه يرتدى كمامة كبيرة طوال الوقت تغطى وجهه، ثم أخرج كمامة من جيبه قال إنه يرتديها عند الضرورة فقط. أكد «ترامب» لمدير المناظرة (الذى اتهمه صراحة بالانحياز ضده) أن لقاءاته كثيفة الجمهور هى نتيجة طبيعية لاهتمام الشعب بما يقول، وأنها آمنة تتم فى أماكن مفتوحة، ولم يفته أن يصف لقاءات خصمه بالصغيرة التى تعكس عدم الاهتمام وغياب الشعبية. وعلى الرغم من سذاجة الطرح ومغازلة العوام بمسألة الأرزاق، فقد كان من الممكن أن تحسم تلك المبارزة على الخصوص لصالح «ترامب» لولا أنه أصيب وزوجته ومدير حملته ومن قبل مساعدته الخاصة بالفيروس، وتم نقله إلى المستشفى لتطور حالته (حتى كتابة تلك السطور).
كذلك كان الاتهام الموجه لبايدن متضاربا إلى حد بعيد، فقد قال «ترامب» إن خصمه يريد أن يغلق البلد ويوقف عجلة الاقتصاد، بينما قال ــ فى السياق ذاته ــ إن الديمقراطيين قد تعمدوا وقف النشاط الاقتصادى (وقالوا نعيد فتحه فى نوفمبر) نكاية فى «ترامب» ومحاولة لتشويه مؤشرات حكمه! هنا من نصدق؟ نصدق الرئيس الذى يزعم أن خصمه سوف يغلق الاقتصاد إذا تولى الرئاسة؟ أم الرئيس الذى يتهم خصمه بأنه سوف يعيد تشغيل الاقتصاد فور توليه الرئاسة بعدما ينجح فى إسقاط مرشح الحزب الجمهورى؟
من المفاصل المهمة الأخرى للمناظرة كان حديث الاقتصاد الذى حمل اتهامات مرسلة وغير مدققة لكلا المرشحين. فمن ناحية أكد «بايدن» أن «ترامب» هو الرئيس الوحيد الذى تسلم مؤشرات الاقتصاد أقوى مما تركها وخاصة التشغيل وحتى أسواق المال التى اعتبرها دائما دليل تفوقه، بينما اتهم «ترامب» منافسه بأنه هو و«أوباما» من أسلما الاقتصاد مدمرا، وكان عليه وإدارته إعادة إحيائه. أقف عند هذه النقطة الخطيرة التى تناولتها فى غير مقال، والتى مدارها عنصر السببية فى الاقتصاد بل وعنصر الزمن أيضا. فعلى الرغم من كون الاقتصاد يقوم على أرقام وبيانات لا يمكن لأحد أن يعبث بها، خاصة فى ظل رصدها من قبل مؤسسات مهنية متخصصة ومستقلة فى الدولة الأكبر والأهم، إلا إن كلا المرشحين ألقى بتهمة الإضرار بالاقتصاد على الآخر دون حرج! كان ذلك دائما محور الجدل فى تعاقب الجمهوريين والديمقراطيين على حكم البلاد. من الذى أساء ومن أحسن؟! هل تسلم «جورج بوش الابن» الاقتصاد مفخخا من «كلينتون» الذى أضاع خلال فترتى حكمه مكتسبات ما صنعه «بوش الأب»؟! أم أن الابن خاض حروبه للتعمية على فشله الاقتصادى، وعدم محافظته على مؤشرات جيدة تركها «كلينتون»؟! فى الاقتصاد هناك عنصر الإبطاء وعنصر السببية، فهل الواقع المختبر سبب أم نتيجة؟ ذلك سؤال صعب، وهل ما نحصده اليوم تم زراعته فى عهد فلان أم سابقه؟ ذلك أيضا غير محسوم.
***
فى رأيى أن حجة «ترامب» كانت ضعيفة فى مسألة توفير نظام صحى بديل لـ«أوباما كير» الذى ألغاه ووعد باستبداله، لكنه لم ينفذ وعده تماما كما وعد أكثر من مرة باكتشاف علاج لكورونا خلال أسابيع.. اتهام بايدن له بأنه يسير دون خطة فى أى شىء كان الرد عليه ضعيف الحجة.
كذلك لم يقدم ترامب ما يثبت سلامة موقفه الضريبى، وأطلق وعدا بالإفصاح عنه قريبا، سخر منه منافسه بقوله باللغة العربية: «إن شاء الله» والتى يستخدمها البعض فى إشارة إلى التسويف بغير أجل محدد.. كيف يسدد هذا الملياردير فى سنتين ما قيمته 750 دولارا للضرائب بينما يسدد المواطن متوسط الحال 12500 دولار سنويا؟! إما أن الرئيس الامريكى يستفيد من ثغرات بقانون ساهم فى وضعه فى فترة حكم أوباما (كما اتهمه بايدن) أم أنه فاشل يستحق استرداد ضريبى، وهذا يضعف موقفه كاقتصادى ناجح.
وفى المفصل الهام من المناظرة والذى تطرق إلى إدانة صريحة للتفوق العرقى الأبيض ومطالبة «ترامب» أن يدين بعبارة حاسمة حركات اليمين المتطرف الزاعمة بتفوق البيض على الملونين، كان «ترامب» غير موفق باستخدامه عبارة stand by بدلا من stand down والأولى تحض على الاستعداد بينما الثانية تأمر بالتراجع وتعترف بالخطأ..
فى مناظرة الرئاسة الأمريكية بدا الرئيس الأمريكى مهتزا انفعاليا مشخصنا شعبويا مقاطعا لمنافسه فى كل جملة.. كان بايدن ثابتا منطقيا رئاسيا (إلى حد بعيد) محددا مدعما بالأرقام والأسماء والتواريخ.. انجر مرة أو مرتين إلى معارك شخصية وإلى المقاطعة أحيانا لكن ظنى أنه لم يفعل ذلك إلا ليؤكد لمنافسه قدرته على مجاراته ولو فى ساحة الغوغاء.
الرئيس الأمريكى يدفع بالمظلومية دائما فهو مظلوم من الصحافة والإعلام وإدارة العملية الانتخابية والصين وحكام الولايات المنتمين إلى الحزب الجمهورى.. بل ومن مدير المناظرة الذى يعمل بأكثر الشبكات انحيازا لترامب (فوكس نيوز)!!
يلوح «ترامب» باحتمالية عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات.. يرفض الإدانة الصريحة للعنصرية ضد الأمريكيين من أصول إفريقية.. يشكك فى كل مبادرات حماية البيئة.. لا يملك خطة بديلة لأوباما كير التى ألغاها ولا لإدارة أزمة كورونا التى قلل من خطورتها.