كباري توكوري

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الثلاثاء 5 أكتوبر 2021 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

كنت فى صبايا عاشقا للممثل الأمريكى الوسيم وليم هولدن وأحرص على مشاهدة كل أفلامه التى تعرض فى دور السينما فى مصر، حيث لم تكن الفضائيات أو حتى التليفزيون قد ظهروا بعد. وكان كبارى توكورى Bridges at Tokori الذى عرض فى عام 1954 واحدا من الأفلام التى قام ببطولتها وليم هولدن وشاهدته مع مجموعة من أصدقائى. ويدور الفيلم عن طيار أمريكى أوفد فى مهمة أثناء الحرب الكورية. ونراه فى الفيلم وهو يودع زوجته الجميلة التى قامت بدورها فاتنة هوليود، التى صارت أميرة موناكو، جريس كيلى وهى تعبر عن لوعتها لفراقه بلهفة شبيهة بلهفة بنيلوبى وهى تودع زوجها أوديسيوس وهو راحل إلى طروادة للمشاركة فى الحرب!
وينطلق البطل إلى موقعه قائدا لطائرة حربية على سطح حاملة طائرات أمريكية تمخر عباب بحر اليابان وينطلق مع أسراب الطائرات لقصف الكبارى الاستراتيجية فى مقاطعة توكورى الكورية، وكنت أهلل مع أصدقائى لكل طلقة للطيار البطل ونصفق لكل إصابة مباشرة يحققها وتتهاوى منها دعائم كبارى توكورى، ونحبس أنفاسنا عندما تتصدى المضادات الكورية لطائرة البطل ونكاد نقرأ السبع آيات المنجيات ليعود سالما إلى حاملة الطائرات! وكادت قلوبنا تنخلع هلعا عندما أصيبت طائرته وهبط بها وهى تحترق، ثم قفز خارج الحطام وأخذ ساترا فى خندق وأخرج مسدسه ليصد هجوم كتيبة من الجنود الكوريين مسلحين بالرشاشات والهاونات والقنابل اليدوية. وفى كل طلقة من مسدسه يسقط جندى حتى بلغ عدد ضحاياه نحو خمسين جنديا، على الرغم من معلوماتى المتواضعة فى السلاح التى تقول إن سعة المسدس ست طلقات وهى معلومة تعلمتها من أفلام الوسترن التى تسميه Six Shooter. ويسقط البطل أخيرا وتروى دماؤه الزكية أرض كوريا الطاهرة بعد أن يؤدى مسدسه العجيب دوره فى نصرة قضية العالم الحر. ولكنه كان بطلا للنهاية مع الاعتذار لملك الترسو المرحوم فريد شوقى!
•••
منذ أيام شاهدت إعلانا عن عرض فيلم كبارى توكورى فى إحدى القنوات الفضائية وكانت سعادتى كبيرة متمنيا استعادة مشاعر وذكريات مر عليها أكثر من ستين سنة منذ شاهدته آخر مرة. وجلست لمشاهدته، ففوجئت بأنه ليس نفس الفيلم الذى شاهدته من زمن طويل وأننى لست نفس الشخص الذى شاهده! تحول الإعجاب والتهليل إلى تساؤلات؛ أولا، لماذا تبحر حاملة طائرات 11 ألف كيلومتر من الولايات المتحدة إلى المياه الكورية؟ ولماذا تقصف كبارى وطرق وهى جزء من البنية التحتية اللازمة لرخاء ورفاهية البلد؟ وهى ليست أهدافا عسكرية. وسألت نفسى لماذا كنت أفرح وأهلل لمقتل الجنود الكوريين؟ لعلهم ليسوا فى وسامة وليم هولدن لكنهم كانوا يدافعون عن بلادهم وأراضيهم ولعل زوجاتهم لسن بجمال جريس كيلى لكنهن كن تنتظرن عودة أزواجهن لمشاركتهن فى رعاية الأولاد وتحمل أعباء الحياة.
لعل الأيام والسنين قد أنضجت الصبى الصغير الذى كان يهلل لغزوات الشجيع الأمريكى وجعلته يطرح هذه التساؤلات؛ تساؤلات تتجاوز كبارى توكورى وتذهب إلى جسر آخر على نهر كواى والفيلم الذى يحمل هذا الاسم والذى قام ببطولته ذات الممثل كأسير فى معسكر يديره الكولونيل اليابانى ساتيو الذى تجمعت فيه كل عناصر القسوة والسادية، ثم قولبت السينما الأمريكية اليابانيين لمدة ستين سنة على شكل الكولونيل ساتيو. ولوليم هولدن فيلم آخر ينضح بالعنصرية اسمه Escape from Fort Bravo من إنتاج 1954 عن ضابط من جيش الشمال أثناء الحرب الأهلية الأمريكية يقود مجموعة من أسرى الحرب من جيش الجنوب، من معسكر إلى آخر، وتتعرض القافلة للهجوم من الهنود الحمر فيسارع القائد ويفك وثاق الأسرى وتوزيع السلاح عليهم لتكون المعركة بين الرجل الأبيض المتمدين والهنود الحمر البرابرة.
كما قولبت هوليود أيضا الألمان على شكل ضباط الجستابو وضباط الـ SS العنصريين التى نزعت الرحمة من قلوبهم. أما المكسيكى فى أفلام هوليود فهو لص وقاطع طريق ومغتصب.
•••
لقد شوهت هوليود معالم كل الشعوب التى اختلفت معها أمريكا ونزعت عنهم سمات الإنسانية فهم ليسوا فى وسامة وليم هولدن، وزوجاتهم لسن فى جمال جريس كيلى، وأطفالهم ليسوا فى براءة شيرلى تمبل ولا يستحقون أن نذرف عليهم دمعة ليسقطوا كأسراب البعوض التى تستحق أن يطلق عليها المبيدات الحشرية، والأنكى أنها جعلت من هذه الشعوب مادة للتسلية نتفرج عليهم وهم يقتلون ويحرقون ونحن نصفق ونهلل كما كان يفعل الرومان عندما كانوا يجلبون أسراهم من البرابرة لتقتلهم الضوارى أو يقتلوا بعضهم بعضا ليتفرج ويتسلى بهم مواطنو روما. وانطلقت فى روما عبارة Patem et in circo أو الخبز والألعاب كوسيلة لحكم الشعب ولعل هذه المقولة لازالت سائدة فى واشنطن التى صارت روما القرن العشرين والحادى والعشرين وصارت تحكم بالمعونات وفائض القمح للعالم الثالث وبسينما هوليود التى أخذت محل القتل فى حلبات المسارح الرومانية.
لقد شوهت هوليود وشيطنت كل من اختلف مع أمريكا وقصرت التمدن والإنسانية على الأمة الأمريكية. فلابس قلنسوة الريش ولابس السومبريرو ولابس العمامة ولابس العقال ولابس الكيمونو، كلهم من الأشرار الذين علينا أن نصفق ونحن نتفرج على لابس قبعة الكاوبوى يقتلهم. إلا أنه من الواضح أن هوليود قد أعطت العالم جرعة زائدة من مخدرها المغلف بغلاف سكرى يخفى مذاقه المر.
لقد بدا الصبية يكبرون وينضجون ويتساءلون وينفرون من الكاوبوى الأمريكى الملطخة يده بالدماء ويتساءلون متى ينتهى القصف الأمريكى بعد أن امتد من كبارى توكورى فى كوريا إلى كبارى نهر الميكونج فى فيتنام إلى كبارى دجلة والفرات فى العراق إلى كبارى قندهار فى أفغانستان. حتى الجمهور الأمريكى وجمهور أقرب حلفاء الولايات المتحدة تهلهل من هذه التيمة الممجوجة بعد أن صارت أفلام هوليود من أكثر عناصر تأجيج الكراهية والعنف والعنصرية.
وعسى أن يكون لهذا التوجه الشعبى الجديد دور فى توجيه هوليود والسينما والتليفزيون فى العالم لتأخذ منحنى جديدا بعيدا عن شيطنة الشعوب وتمجيد الحرب والعنف. ويكون لها دور فى تكريس السلام والتعاون بين الشعوب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved