عن «النفس المطمئنة».. ثلاث تغريدات من عمق أكتوبر

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: الثلاثاء 5 أكتوبر 2021 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

«وفى عام 1826 تم إنشاء أكاديمية الأركان العامة. وتُرْجِمَتْ الأنظمة العسكرية الداخلية إلى اللغة العربية لكى تكون متوافرة لدى وحدات الجيش الجديدة. وكانت جميع تنظيمات الجيش على شاكلة جيش نابليون تماما. فالقوات كانت مجهزة بالمدفعية. وقد كتب أحد مشيرى نابليون عنها قائلا: «يمكن مقارنة هذه المدفعية الممتازة بمدفعية الجيوش الأوروبية. وعند النظر إليها يعجب المرء دون إرادةٍ منه بقدرة السلطة التى جعلت من الفلاحين جنودا صالحين إلى هذه الدرجة»، وكانت الأسلحة تُشْتَرَى من أوروبا ويُصَنَعْ جزء منها فى مصر نفسها». (لوتسكى، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار الفارابى، بيروت).
مع آخر ضوء من يوم الأحد 7 أكتوبر 1973، انكمشت داخل أحد الخنادق المجهزة تحت سطح الأرض ليحتمى بها المقاتل من شظايا القنابل المتناثرة من حوله وقت القتال فى منطقة الانتشار المخصصة لكتيبتنا ــ ك 41 كبارى ــ على الضفة الغربية للقناة جنوب كوبرى الفردان. رأيت حولى عددا من أفراد الفصيلة التى كلفت بقيادتها، كنا نتابع فى تَرَقُبٍ قَلِقْ قذائف المدفعية المتبادلة بين قواتنا وقوات العدو الإسرائيلى شرقى القناة وكذا أصوات المدفعية المضادة للطائرات التى تتصدى لطائرات العدو المغيرة علينا. تلاحقت أمام عيوننا طلعات السكاى هوك الإسرائيلية الحريصة على إصابة كوبرى الاقتحام العائم الذى أقمناه بالأمس فى خمس ساعات من عددٍ من الوحدات المعدنية العائمة المتلاصقة (تسمى «براطيم»). والذى تمدد أمامنا يصل ضفتى القناة ويحمل المؤن والذخائر والمركبات إلى «رأس الكوبرى» (هو تعبير عسكرى يعنى أرضا مسيطرا عليها من قبل قواتنا بعد عبور المانع المائى تستطيع التشبث بها والدفاع عنها فى مواجهة هجمات العدو المضادة المتلاحقة برا وجوا) الذى أقامته قواتنا من أفراد الفرقة الثانية مشاة بقيادة العميد حسن أبو سعدة على الضفة الشرقية من القناة.
بلغتنا فجأة أخبار إصابة الطرف الشرقى من الكوبرى العائم ببعض الأضرار الجسيمة نتيجة القصف الجوى المركز لطائرات العدو الإسرائيلى. أسرع إلىّ أنور أحد أفراد فصيلتنا من الجنود البواسل، يستحثنى أن نفعل شيئا من أجل إصلاح الكوبرى المعطوب. أرسلته على الفور إلى الملجأ الحصين الذى يوجد فيه قائد كتيبتنا لإبلاغه باستعداد فصيلتنا لتنفيذ أية أوامر بخصوص إصلاح طرف الكوبرى المُدَمَرْ. عاد إلىّ بعد دقائق يبلغنى باستدعاء المقدم حسن صالح ــ قائد الكتيبة ــ لى لمقابلته وتلقى الأوامر التفصيلية منه. ذهبت على الفور إلى المقدم حسن وتلقيت منه الأوامر بتجميع عددٍ مناسب من البراطيم المتناثرة فى كل اتجاه على سطح القناة بعد إصابة الكوبرى، وذلك تمهيدا لتثبيتها مكان البراطيم التى تم تدميرها تحت قصف الطيران الإسرائيلى المركز فى إتجاه الكوبرى. اصطحبت معى عددا من جنود فصيلة الاستطلاع بالكتيبة على متن زورقٍ مطاطى نحاول تجميع أكبر عددٍ من البراطيم المتناثرة على سطح القناة.
فجأة أصيب سائق الزورق المطاطى بنوبة خوف شديدة وهو يرى انفجارات متتالية تجتاح مخازن الذخيرة على الضفة الشرقية من القناة. وبدلا من أن يندفع بالزورق مبتعدا عن موقع الانفجارات، فوجئنا به يندفع بالزورق فى اتجاه مركز التفجيرات وبدأنا نقترب بلا توقف من دائرة الموت. بدت كل الأشياء من حولى واهية... وهشة... وبلا معنى... بدا المصير المكتوب معلقا... على شعرةٍ مشدودة بين الحياة والموت... بين البركة واللعنة... بين الخلاص والهلاك... بين الوجود والعدم... أدركت للحظة... قيمة تضرعات قلب أمى الملتاعة... التى لا تعلم شيئا عن مصير ابنها الغائب عنها... لكنها كانت تتشبث بالإيمان... تفيض بالمحبة... وتتعلق مستميتة... بأهداب الرجاء...
تمالكنا أنفسنا وابتعدنا بالزورق تدريجيا عن دائرة الخطر. حاولنا من جديد تجميع البراطيم المتناثرة. فوجئنا بمشهدٍ عجيب بالقرب مِنَا. شاهدنا إمام مسجد الكتيبة الذى يَؤُمُ المصلين من أفراد الكتيبة فى صلاة الجمعة وفى الأعياد الرسمية، يقود اللنش الذى يعمل عليه فى هدوءٍ بالغٍ وسكينةٍ ملفتةٍ للانتباه. وقد قام بالفعل من تلقاء نفسه بتجميع عددٍ معتبرٍ من البراطيم السليمة متجها بها فى هدوء وثقة وتصميم نحو الكوبرى المعطوب الذى ينتظر الإصلاح. انضممنا إليه فى صمتٍ مغلفٍ بالامتنان، متجهين إلى الطرف الشرقى من الكوبرى لاستبدال الأجزاء المدمرة منه بالبراطيم السليمة.
... أدركت عن يقين أن تعبير «النفس المطمئنة» الذى يتردد كثيرا فى الأدبيات الإسلامية، ليس مجرد تعبير بلاغى صالح للاستخدام فى الصياغات الأدبية والأوصاف المجازية... بل هو تعبيرٌ عن نموذجٍ إنسانيٍ رفيع... حيٌ وفاعل... وحاضرٌ بيننا... صانعٌ للحب... والرحمة... والسلام....

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved