تحتل مسألة النزوح السورى وعودة النازحين مركز الصدارة على الأجندة الوطنية فى لبنان، دون أن يعنى ذلك أن هنالك توافقا «فعليا» حول هذه المسألة يتخطى العناوين والتمنيات. والجدير بالذكر أن نسبة النازحين السوريين فى لبنان تتراوح حسب مختلف التقديرات بين ٣٥ و٣٧ بالمائة من الشعب اللبنانى. هذه المسألة ــ المأساة هى شديدة التعقيد بسبب الظروف المحيطة بها، ظروف غير مستقرة تحمل عناصر عديدة متغيرة.
ملاحظات خمس لا بد منها بشأن بلورة سياسة عامة لبنانية فاعلة حول أولوية العودة:
أولا: إشكالية المسألة الإنسانية المتعلقة بالنزوح من جهة وقضية الأمن القومى بالنسبة للبنان الدولة المضيفة من جهة أخرى:
ديمغرافية النزوح الضاغطة والمفتوحة فى الزمان وفى المكان من جهة مقابل ضرورة الحفاظ على الاستقرار المجتمعى بمختلف أبعاده ومكوناته من جهة أخرى. نسمع خطابا «دوليا» بشكل عام لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع اللبنانى ولا يراعى خصوصيات وحساسيات هذا الواقع فى الجغرافيا والتاريخ والاجتماع. كما نسمع أحيانا عند البعض اللبنانى ردود فعل تبسيطية وتعميمية واختزالية وشعبوية لا تخدم المخاوف المشروعة للشعب اللبنانى؛ إذ لا تقدم حلولا عملية وواقعية ومرحلية تندرج فى تحقيق الهدف الأساسى وهو أولوية العودة للنازحين إلى سوريا.
ثانيا: إشكالية العودة الطوعية أم العودة الآمنة:
إذا كانت الأولى فى صلب الاتفاقية الخاصة باللاجئين لعام ١٩٥١ (المادة٣٣) حول «عدم طرد أو إعادة أى لاجئ... حيث حياته أو حريته معرضة للخطر»، لكن لبنان ليس عضوا فى الاتفاقية ولا فى بروتوكول ١٩٦٧، رغم ذلك فإن العودة الآمنة تستدعى توافر معايير وشروط معينة. فالمنطقة الآمنة لا تعنى فقط غياب القصف أو الأعمال العسكرية إنما وجود الأمان السياسى والاجتماعى، مثل عدم التعرض للاعتقال أو لأى نوع من المضايقات، وبالتالى توافر الضمانات لذلك. وعلى صعيد آخر فإن تجربة الأمم المتحدة فى إقامة مناطق آمنة فى دول تعيش حروبا (مجزرة سربرنيتشا عام ١٩٩٥ فى يوغسلافيا ومجزرة التوتسى عام ١٩٩٤ فى راوندا) لا تشجع المنظمة الدولية على اعتماد هذا الخيار كما يردد دائما المسئولون الأمميون المعنيون. ولكن لا يمكن أن يقف لبنان مكتوف الأيدى بل يجب بلورة خريطة طريق من عدة مراحل يرتبط كل منها بفرص وشروط معينة لتخفيف العبء بشكل تدريجى عن لبنان فى طريق عودة مبرمجة للنازحين (مجموعات وجدول زمنى).
ثالثا: إشكالية طبيعة وخصوصية العلاقات اللبنانية السورية على جميع الأصعدة: الرسمى والسياسى والأهلى، وإرث هذه العلاقات أيا كانت مواقف الأطراف المختلفة منها. فهى تؤثر على مقاربة مشكلة النازحين حتى ولو لا يريد الكثيرون، أيا كانت مواقعهم ومواقفهم، الاعتراف العلنى بذلك. لكن التباينات بين الأطراف اللبنانية واضحة إذا ابتعدنا عن العناوين والصيغ العامة. أضف أن هنالك الخوف فى اللا وعى عند البعض والخوف أو التخويف المعلن عند البعض الآخر من حدوث تكرار لسيناريو اللجوء الفلسطينى رغم الاختلاف الكلى بين الحالتين. كما أن هنالك الخوف المشروع من أن يصبح المؤقت دائما تحت ضغط تطورات الوضع السورى المفتوح على احتمالات عديدة والتغييرات الديمغرافية وغيرها الحاصلة فى سوريا.
رابعا: إن تطور الصراع فى سوريا وحول سوريا بأبعاده المختلفة من هوياتية وسياسية واستراتيجية إقليمية ودولية وإعادة ترتيب الأولويات وانعكاس ذلك بشكل دينامى على موازين القوى المرتبطة بهذا الصراع يعكس تأثيرا كبيرا أيضا على كيفية تعاطى مختلف الفرقاء اللبنانيين مع مشكلة النازحين.
خامسا: إن المطلوب تحرير مشروع بلورة السياسة العامة بشأن النازحين من قيود وأثقال وسمات خصوصيات العلاقات اللبنانية السورية والانقسامات الداخلية الحادة بشأنها، انقسامات تغذيها الخلافات الإقليمية، بغية بلورة توافقات وطنية راسخة ومستقرة وواضحة تشكل قواعد وأسس ومرجعيات هذه السياسة العامة الجامعة والمطلوبة بإلحاح قبل أن يغرق المركب بالجميع. إن بناء هذه السياسة العامة الجامعة ــ وأركز على الجامعة ــ توفر الإطار والمرجعية وقوة الدفع الضرورية لدبلوماسية لبنانية، رسمية وعامة، تنشط أولا فى التنسيق مع الدول المستقبلة للنازحين بغية تبادل الخبرة والمقترحات والتعاون. كما تنشط هذه الدبلوماسية فى المنظمات والمنتديات الدولية والعربية. وكذلك فى المجالس البرلمانية وفى الهيئات الدولية غير الحكومية المعنية لعرض خطوط هذه السياسة العامة بغية توفير الدعم المطلوب بجميع أبعاده وأشكاله لأهداف هذه السياسة العامة متى تبلورت بغية المعالجة الكاملة والشاملة والناجعة لهذا الملف الإنسانى والمتعلق بصيانة الأمن القومى للبنان بالمفهوم الشامل لهذا الأمن. وكان استدعاء رئيس الجمهورية لسفراء الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن وممثلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى وجامعة الدول العربية الخطوة الأولى الضرورية لإطلاق هذا المسار الذى يجب أن يستند إلى بلورة هذه السياسة العامة.
فهل سنستطيع أن نحيّد هذا الملف الأساسى عن خلافاتنا الداخلية والتى هى فى جزء منها ناتجة عن اصطفافاتنا الإقليمية أم نبقى متفقين على العناوين دون أن نترجمها إلى مضامين؟