أحياء الذاكرة
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الإثنين 5 نوفمبر 2018 - 12:00 ص
بتوقيت القاهرة
يمكن أن نقيس أثر الآخرين فينا بمقدار ما يشغلونه من ذاكرتنا الحية. تشمل الذاكرة الحية تيار الصور، والأفكار، والكلام، الذى يمر على أذهاننا فى لحظات النوم، واليقظة، وما بينهما من غفوة. بعض الأشخاص الذين نتعامل معهم يوميا فى محيط العمل أو الأسرة لا يشغلون أى حيز يُذكر من ذاكرتنا الحية؛ فلا يزوروننا فى أحلامنا، ولا يطرءون على بالنا، ولا نضبط أنفسنا نفكر فيهم على غير إرادة، ولا تملأ وجوههم وأصواتهم رءوسنا على غير تدبير. هؤلاء يلفتون انتباهنا فى أثناء حضورهم فى المحيط الفيزيقى الذى نوجد فيه فقط، وقد لا يشغلون انتباهنا حتى، وهم إلى جوارنا؛ فهم، بالنسبة إلى ذاكرتنا الحية، أموات تقريبا، وفى أفضل الأحوال خاملون. لكن هناك بشرا آخرين، قد لا نتصل بهم لشهور، أو نلقاهم لسنين، لكننا نسمع أصواتهم، ونرى صورهم، ونتحاور معهم فى توهمات يقظتنا، وفى أحلام نومنا. هؤلاء أسميهم «أحياء الذاكرة»، ممن يعيشون فى خواطرنا، حتى لو كانوا من الموتى الراحلين.
***
لو أغمضَ كلٌ منا عينيه، وحاول جمع «أحياء ذاكرته» فى قائمة واحدة، فلربما تساءل عما يجمع بينهم. فقد تضم القائمة بضعة أقارب راحلين، وأصدقاء تفصلنا عنهم آلاف الكيلومترات، وحبيبات لم نرهن منذ عقود، وأعداء صارعونا فى منعطفات الحياة، وغيرهم/هن. بعضهم جمعتنا بهم عشرة زمن طويل، وآخرون ربما اقتصرت صلتنا بهم على سويعات أو دقائق سريعة. لكن المؤكد أنهم جميعا غرسوا فى أرض ذاكرتنا البكر شجرة سامقة، ستظل تثمر ذكريات، وأحلاما، وتوهمات حتى نموت.
من بين قائمة «أحياء الذاكرة» الذين أحملهم معى فى جعبة ذاكرتى بضعة أساتذة، حفروا عميقا فى روحى وعقلى، وغرسوا فى أشجار صنوبر تستعصى على الموت. فما بين الحين والحين أجد نفسى متلبسا بتذكر أستاذتى (أبله حميدة) رحمها الله، التى علمتنى حروف الأبجدية، فى سنوات عمرى الأولى. والتى حببتنى فى القلم، والكراس، والكتاب، وجعلتنى أثق، وأنا ما زلت فى السابعة من عمرى، فى قدرتى على ولوج العالم الأكثر سحرية؛ أعنى عالم الحروف، والكلمات. وفى القلب من قائمة أساتذتى «أحياء الذاكرة» يأتى سيد البحراوى، وهو أستاذ جامعى فريد، سأحاول من خلال تأمل علاقتى به، الممتدة لأكثر من ربع قرن، أن أفسر سبب بقاء القليل من أساتذتنا أحياء فى ذاكرتنا.
***
بعض البشر نسمع بهم، ونحكى عنهم، قبل أن نخالطهم. وهذا هو حالى مع سيد البحراوى. فأثناء دراستى فى كلية التربية، كنتُ ألتقى زملاء المدرسة الثانوية ممن التحقوا بكلية الآداب فى جامعة القاهرة. وكان أحد أكثر الأسماء ترددا على ألسنتهم هو سيد البحراوى. كانوا يحكون عن انضباطه التام، ودقته، وإخلاصه، وسعة معارفه، وبالأخص طريقته الفريدة فى المحاضرة من خلال تشجيع الطلاب على النقاش الحر الشجاع، وإعطاءهم فرص تقديم الدروس لزملائهم. كذلك حرصه على كسر الصورة النمطية للأستاذ الجامعى، الذى يضع حواجز بينه وبين طلابه، ويحقق ذاته بالتعالى عليهم. فى ذلك الحين لفت انتباهى أمرٌ واحد، هو أن بعض زملائى المعجبين بالبحراوى، ينتمون إلى بيئات شبه محافظة، وأن بعضهم يدركون أنفسهم بوصفهم متدينين. ومع ذلك، لم يقلل اختلافهم الفكرى مع البحراوى من احترامهم له، ومحبتهم إياه، على النقيض من أساتذة آخرون، لطالما انتقدوهم للأسباب نفسها.
ربما تكمن هنا أحد أهم عوامل احتفاظنا بصورة إيجابية لبعض البشر فى ذاكرتنا الحية؛ أعنى قدرة هؤلاء الأشخاص على تقبل اختلافنا معهم، وحرصهم على أن يروا ما هو إنسانى وأصيل فينا. لقد كان البحراوى يمنح جميع طلابه حق الكلام، بغض النظر عن منطلقاتهم الفكرية، كان يحترمهم، ويتعاطف معهم، ويحبهم، بوصفهم بشرا دون تمييز، كان يتيح لهم التعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية، ويُدرك أن هؤلاء الفتية والفتيات يحتاجون إلى من يستمع إليهم، ويناقشهم، ويعطيهم مساحة ولو قليلة لتحقيق ذاتهم. كان يرى تعصب بعضهم، ولا مبالاة بعض آخر، بوصفها نتائج ظروف أكبر وأقوى منهم، ساهم فى صنعها المجتمع والسلطة التى تحرم الناس الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية ليكونوا بشرا أسوياء. وفى الوقت الذى كان بعض الأساتذة يسب طلابه، ويطردهم من محاضراته، ويسخر منهم بوصفهم جهلة أميين، كان البحراوى يستمع إلى الجميع، ويناقشهم، ويعلمهم، تحت ظلال أبوية لا يفشل فى إدراكها ذو بصيرة.
***
يتيح العمل بالجامعة اختبارا من نوع خاص، قد لا يتوافر فى مؤسسات أخرى كثيرة. فالطلاب يدخلون فى علاقة تلمذة مع أساتذتهم فى أثناء فترات الدراسة، تتحول إلى علاقة زمالة حين يُعين هؤلاء الطلاب فى الجامعة. وحينها تُمتحن صور الأساتذة امتحانا عسيرا. فالطلاب يرون أساتذتهم عن قرب، لمدى زمنى طويل، فى مواقف تظهر فيها خفايا النفوس؛ مثل التنافس على الماديات، والعلاقة بالسلطة، والتطبيق العملى للمبادئ. كما تُمتحن هذه الصور بفعل الثراء المعرفى والحياتى الذى يتراكم لدى الطلاب بفعل التعلم المكثف، والخوض فى الحياة، وهو ما يجعلهم يراجعون أفكارهم وتصوراتهم السابقة، وينتقدونها باستمرار. وفى الحقيقة فإن تجربتى الشخصية تقول إن صور كثير من أساتذتى قد تغيرت على نحو جذرى بعد أن عرفتهم بوصفهم زملاء، للأحسن أو الأسوأ.
الدكتور سيد البحراوى أحد أساتذة قليلين، اتسقت صورتهم بوصفهم أساتذة مع صورتهم بوصفهم زملاء عمل. فقد عرفتُه أستاذا يحرص على قيمة الحرية، ويناهض السلطة المستبدة فى كل صورها. يحب الحياة فى كل تجلياتها، وينظر للعالم نظرة فنان. وحين زاملتُه، عاينتُ عشرات المرات، نضاله ومقاومته لكل أشكال التسلط والقهر التى تضرب فى حنايا المجتمع. راقبته وهو يُعلى المبدأ على المصلحة؛ ويترفع عن قبول أعمال قانونية، ومشروعة، لأنها ضد مبادئ أساسية عنده مثل مجانية التعليم، والتمييز بين الطلاب الفقراء والأغنياء. رأيته وهو يدافع عن استقلال الجامعة بشراسة، ضد من يسعون لجعلها مطية للسلطان. خبرته وهو يمتص رحيق الحياة حتى الثمالة، ويتمتع إلى أقصى طاقته بالجمال. وسحرنى تقديره لقيمة الإبداع؛ سواء أكان كتابا نقديا أصيلا، أم رواية ساحرة البساطة، أم قطعة فنية منحوتة من الشموع البيضاء.
لقد عاش البحراوى حياة ملهمة أصيلة، فأصبح بأصالته أحد أبرز «أحياء الذاكرة».