ما بين مشرط الجراح وساطور الجزار

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الجمعة 5 نوفمبر 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

القلب هو عماد الجسم البشرى، يضخ الدماء فى الدورة الدموية ليغذى الأعضاء بالأكسجين من خلال الرئة. وسلامة الجسم ونشاطه تعتمد على صحة القلب ونشاطه، فإذا شاخ القلب أو تلف تداعى الجسم وتهالك حتى الموت.
وكان اليوم الثالث من شهر ديسمبر عام 1967 يوما مشهودا فى تاريخ العلم والطب، بل والبشرية، فقد نجح فى هذا اليوم الجراح النابه Christiaan Barnard فى نقل قلب الفتاة الشابة Denise Durval البالغة من العمر خمسة وعشرين عاما، والتى قتلت فى حادث سيارة، إلى صاحب القلب العليل الذى استنفد سبل العلاج وبات مهددا بالموت Louis Washkansky البالغ من العمر ثلاثة وخمسين عاما وذلك فى مستشفى Groote Schuur فى جنوب أفريقيا. مثلت هذه الجراحة ثورة حقيقة ليس فى عالم الطب فحسب، بل فى تاريخ الإنسانية. فلأول مرة فى التاريخ أصبح متاحا استبدال العضو الرئيس فى جسم الإنسان المتحكم فى صحته.
رحبت الدوائر العلمية الواعية بهذا الإنجاز تحت ضوابط طبية وعلمية صارمة، والتى قام بها جراح نابه يعاونه طاقم من الخبراء فى التخدير والأنسجة، لاختيار البديل المناسب الذى لا يلفظه الجسم والمناعة، وأجهزة طبية حديثة بمساعدة طاقم تمريض عالى الكفاءة فى مسرح عمليات معقم ومعزول.
إلا أن العوام، للأسف، لم يدركوا شروط ومتطلبات الجراحة. وعندما سمع المعلم قرنى الجزار الذى يعانى ابنه الوحيد من عيب خلقى فى القلب يهدد حياته بأنه من الممكن استبدال القلب العليل بقلب سليم حتى أمسك بساطوره وضرب صدر صبيه ومد يده الملوثة وانتزع قلبه ثم ضرب صدر ابنه بالساطور ونزع قلبه العليل ووضع قلب صبيه مكانه فكانت النتيجة الطبية الكارثية؛ إذ مات الابن ومات الصبى وحكم على المعلم قرنى بالإعدام.
•••
ولا تختلف الدول عن الإنسان، فالدول تعتمد صحتها على مركز رئيسى حاكم سواء كان ملكا أو رئيسا أو حكومة، فإذا شاخ هذا المركز أو تلف وفسد أو فقد قدرته على التكيف مع الزمن، تداعت الدولة وفقدت استقرارها ورخاءها وتكون هناك حاجة ماسة لتغيير المركز، وكما فى حالة البشر هناك أسلوب مشرط الجراح وهناك أسلوب ساطور الجزار.
فى يوم 22 نوفمبر 1963، اغتيل الرئيس الأمريكى جون كينيدى. كان ذلك فى أوج الحرب الباردة بعد سنة بالكاد من أزمة الصواريخ السوفيتية فى كوبا التى هددت بتحويل الحرب الباردة إلى حرب نووية كارثية. ومع بداية التورط الأمريكى فى حرب فيتنام وفى أوج زمن التمرد الداخلى من أجل الحقوق المدنية للسود بعد أن وقف حاكم ألاباما جورج والاس ومعه قوات الحرس الوطنى أمام مدخل جامعة ألاباما لمنع دخول ثلاثة من الطلبة السود، ورغم هذه الظروف فقد أقسم نائب الرئيس ليندون جونسون اليمين خلفا لكينيدى على متن طائرة الرئاسة دون أى اضطرابات أو ردود أفعال.
وفى سنة 1969، وبعد مظاهرات للطلبة والعمال سادت فرنسا وشلت الحياة لأكثر من شهر، استقال رئيس فرنسا الأسطورى شارل ديجول وتولى السلطة بسلام جورج بومبيرو رئيس الوزراء المنتمى للحزب الديجولى رغم أن هذا التغيير حدث فى ظروف محلية ودولية فى غاية الدقة، فعلى المستوى المحلى كانت فرنسا تتعرض للفتنة المسلحة، قامت بها منظمة الجيش السرى OAS بقيادة الجنرال راءول سالان الرافضين لاستقلال الجزائر، وعلى المستوى الدولى كانت فرنسا تتعرض لضغوط شديدة من الولايات المتحدة الرافضة لبناء فرنسا قوة ردع نووية مستقلة بعد أن فجرت قنبلتها النووية الأولى فى عام 1960 ومن بريطانيا بسبب رفض فرنسا قبولها فى السوق الأوروبية المشتركة.
•••
مثالان لنقل العضو الرئيس فى جسم الدولة بمشرط الجراح فى جو معقم وصحى بوجود بديل لا يرفضه جسم الدولة على يد سياسيين ذوى خبرة مدعومين بأحزاب لها وجود على الساحة وبرلمان له مصداقية ودستور محترم. أما النقل بواسطة الساطور فلا أدل عليه من حالة العراق الذى شعر بحاجة مشروعة لنقل السلطة إلى جسم جديد بسبب نظام وقف ضد إرادة الشعب أثناء ثورة رشيد الكيلانى ومشى فى ركاب الإمبريالية مع حزب بغداد. فامتشق عبدالكريم قاسم الساطور وضرب به رقاب الملك الصبى فيصل الثانى والأمير عبدالإله الوصى على العرش ورئيس الوزراء نورى السعيد، وسحلهم وعلق جثثهم على الجدران. ثم استمر يضرب بالساطور ذات اليمين وذات اليسار فأطاح برءوس عبدالوهاب الشواف وناظم الطبقجلى وعشرات غيرهم حتى انتزع عبدالسلام عارف الساطور منه وأعدمه مع ابن خالته وجلاده فاضل المهداوى أمام كاميرات التلفزيون على الهواء مباشرة! واستمر تداول الساطور من يد إلى يد فى العراق حتى وصل إلى صدام حسين فبدأ عهده فى عام 1979 بمذبحة قاعة الخلد باستدعاء 22 من أعضاء حزب البعث وإعدامهم دون محاكمة وامتد ساطوره الكيماوى إلى حلابجه وامتد أخيرا ليطال شعب الكويت حتى سلط الله عليه الجزار الأكبر حاملا الساطور الأعتى الذى أطاح به وسفك من دماء العراقيين ما أحال مياه دجلة والفرات إلى لون الدماء.
•••
التغيير بسبب عجز الإدارة أو فسادها أو شيخوختها أمر شرعى ومطلوب ولكن علينا الاختيار بين أن يتم التغيير بمشرط الجراح أو ساطور الجزار، وإذا اخترنا المشرط فعلينا إعداد المسرح الجراحى بأن يكون هناك بديل مقبول مدعوم من حزب له تواجد ذو مصداقية على الأرض، ودستور محترم، وبرلمان يمثل الشعب تمثيلا حقيقيا، وإعلام يعكس رغبات الشعب.
المشكلة لدينا فى العالم العربى باتت لا تقتصر على محاولة استبدال القلب بالساطور، بل باتت محاولة تمزيق باقى الأعضاء من كبد وكلى ورئة بالساطور. وبات السنة والشيعة والأكراد يمزقون بعضهم بالسواطير، والشعب فى سوريا انقسم إلى جماعات تحمل السواطير، وكذلك فى لبنان وفى ليبيا وفى اليمن وفى السودان. الجسم يموت إذا طعن القلب بالساطور وكذلك يموت إذا مزقنا أعضاءه بالسواطير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved