أين نحن من «حركة التحرير اليهودية»؟

أمل مراد
أمل مراد

آخر تحديث: الثلاثاء 5 نوفمبر 2024 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

لا شك أن الاهتمام الأول فى هذه اللحظة المزلزلة من تاريخ القضية الفلسطينية، هو مصير حركة تحرير فلسطين، التى ستقود هذا الشعب المكلوم من تحت الركام إلى بر العدالة والحرية والأمان آجلاً أو عاجلاً. إلا أن هذا الاهتمام نفسه هو ما يجعلنى ألتفت إلى بزوغ حركة موازية تسعى إلى تحرير الهوية اليهودية من سطوة الصهيونية، لأن تاريخ حركات التحرر الوطنى ينبئنا بأن حرية فلسطين ستحتاج تحالفات نوعية تعوض اختلال موازين القوة الهائل.

•  •  •

فى احتفال بعيد الفصح فى إحدى ساحات نيويورك فى أبريل الماضى، ألقت الكاتبة والناشطة اليهودية الكندية ناومى كلاين خطبة بليغة أجدها بمثابة «مانيفستو» لحركة تحرير الهوية اليهودية من وعد الصهيونية الكاذب.

انطلقت كلاين فى خطبتها من الدين، لتعيد الهوية اليهودية إلى أصلها (الدين لا القومية)، فبدأت بقصة عودة موسى ــ عليه السلام ــ ليجد بنى إسرائيل يعبدون العجل الذهبي، لترى فيها تحذيرا رمزيا من ذلك الخطر الدائم أن يضحى الإنسان بالعظيم المطلق (الإله الحق) لصالح المادى اللامع (العجل الذهبى)، الذى يسقطه بشكل متكرر فى عبادة آلهة مزيفة يُضِل بريقها عن طريق الحق.

فى هذا السياق، حذرت كلاين من أن أكثر أبناء الشعب اليهودى يقومون الآن بعبادة «إله مزيف» هو الصهيونية، التى اختطفت أعمق القصص التوراتية دعوة للعدالة والانعتاق ــ تقصد قصة «خروج» اليهود من مصر ــ وحولتها إلى سلاح وحشى للنهب الاستعمارى والتطهير العرقى والإبادة الجماعية، وتجرأت على مفهوم «أرض الميعاد»، الذى ترى فيه طموحا مجردا للتحرر، فحولته إلى أداة للترويج لدولة عرقية عنصرية (إسرائيل).

الصهيونية بالنسبة لها «إله مزيف» جر كثير من أبناء الشعب اليهودى إلى طريق لا أخلاقى يبرر خيانة كل قيمة يهودية حقيقية، بدءًا من وصايا: لا تَقْتُل، لا تَسْرَق، لا تَطْمَع، ولذا آن أوان «الخروج» عليها ليتحرر اليهود من ذنب إبادة جماعية تُرْتَكَب باسمهم.

اليهودية الحقيقية، وفقا لكلاين، لا يمكن أن تحتويها حدود دولة عرقية؛ ولا يصح أن يحميها جيش هائج لا يزرع ولا يحصد إلا الكراهية؛ ولا يستقيم أن تشعر بالتهديد من أصوات المتضامنين مع فلسطين من كل عرق ودين وجنس وجيل؛ بل تجد فى الوقوف ضمن هذه الأصوات المتنوعة أمن اليهود الحقيقى وتحررهم الجماعى.

•  •  •

لم تكن جودة البلاغة ولا صلابة الموقف الأخلاقى وحدهما ما جعلا هذه الخطبة تستدعى لدى مفهوم «مانيفستو» حركة التحرير اليهودية. فتاريخ المعارضة اليهودية للصهيونية قديم قدم الصهيونية ذاتها. ما استدعى عندى هذا المفهوم هو السياق الذى أُلقيت فيه الخطبة، الذى جعلها تعبيرا لغويا عن حراك استثنائى فى قطاعات واسعة من يهود الغرب، وخاصة الشباب فى الولايات المتحدة، وقف القائمون عليه جنبا إلى جنب مع باقى أطياف أنصار فلسطين، رافعين هوية يهودية بديلة تتبرأ من ادعاء إسرائيل أن عدوانها يمثل دفاعا عنهم، ومحتجين على عنصرية واستعمارية مشروع يسعى لتوريط اليهود فى جريمة الإبادة.

وقد تابعنا جميعا كيف نظمت مجموعات من هؤلاء اليهود احتجاجات فى مراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة، وساروا جنبا إلى جنب مع مختلف الأطياف للمطالبة بوقف إطلاق النار وحرية فلسطين ومعاقبة إسرائيل فى شوارع أكبر المدن الغربية وساحات أهم جامعاتها، فتحدوا بمشاركتهم اتهام تلك الاحتجاجات بمناصرة الإرهاب ومعاداة السامية. وكانوا بين من استقالوا من وظائفهم احتجاجا وعوقبوا بسبب مواقفهم. كما مارسوا صحافة شريفة فى وسائل إعلام مستقلة ونشطوا على وسائل التواصل الاجتماعى لفضح وتوثيق جرائم إسرائيل، ولعرض أسباب ومنطق رحلاتهم الشخصية «للخروج» على الصهيونية.

•  •  •

لم تبزغ «حركة التحرير» هذه فجأة، بل نمت تدريجيا على مدار عقود، كانت خلالهم عدوانية إسرائيل وصمود الشعب الفلسطينى المحرك الرئيسى، وكتابات أكاديميين ومؤرخين موهوبين (كثيرهم من أصول عربية ومنهم يهود مثل نوام تشومسكى وأڤى شلايم ونورمان فينكلستين وإيلان پاپى) مصدر إلهامها الفكرى والتاريخى، والتعاون فى إطار مبادرات مقاطعة إسرائيل حاضنتها، حتى جاء جنون إسرائيل بعد السابع من أكتوبر ليطلق طاقتها الكامنة.

تمثل هذه الحركة جزءا من حراك أوسع فى العالم لمناصرة الحق الفلسطينى، ولكنى أرى أنه جزء له أهمية ينفرد بها وتستحق منا التفاتا خاصا. فهذه الحركة  هى الأقدر على إعادة  جوهر المبادئ الأخلاقية والقانونية المترتبة على التجربة التاريخية اليهودية القاسية إلى أصلها الإنسانى بعيدا عن ابتذالها فى تبرير أفعال إسرائيل. وتضرب الصهيونية ودولتها فى أقوى قلاعها الحصينة (الجماعة اليهودية)، مخلخلة الركيزة الصلبة للوبى الداعم لإسرائيل فى الغرب. وهى وحدها قادرة على تكوين مرجعية بديلة لإعادة تعريف يهودية متحررة من عبء الصهيونية لباقى وقادم شباب اليهود، بمن فيهم شباب إسرائيل بعد أن ينتهى الهياج الجماعى الحالى، وهو حتما سينتهى.

قد لا تحظى هذه الحركة بتأييد أغلبية ــ أو حتى أكثرية ــ يهود الخارج، وتأثيرها لم ينفذ إلى مراكز السلطة والثروة بينهم. لكنى أظن أنها نجحت بالفعل فى زعزعة مكانة إسرائيل فى المخيلة اليهودية وكسر احتكار الصهيونية لها إلى غير رجعة، بل وبدأت أصدائها تتردد داخل المجتمع الإسرائيلى نفسه. فهناك أمور حين تخرج إلى العلن لا يمكن محو أثرها أو إخفائها مرة أخرى، والإبادة الجماعية وما تولده من دعاوى قضائية سيمتد مفعولها لعقود هى بالتأكيد أحد هذه الأمور.

•  •  •

مآل هذه الحركة البازغة يتوقف على ما ستنتهى إليه الحرب الحالية وتعامل مختلف الأطراف مع ما بعدها. فقد سبق أن أبطلت مواقف الأطراف مفعول حراك مناصرة فلسطين من قبل. وهذا هو ما يدعو لسؤال أين نحن من هذه الحركة؟ هل يمكننا القيام بما يدعمها ويؤسس لتحالف ضمنى معها غايته التحرر؟ صحيح أن هناك تحالفا قائما بالفعل فى الغرب بين يهود وذوى أصول عربية، ولكن ماذا عن دورنا نحن أنصار القضية الفلسطينية فى المنطقة؟ ولا أتكلم هنا عن الحكومات طبعا، فلا مكان للحكومات العربية فى حراك من هذا النوع. أنا أتحدث عن النخب السياسية والثقافية والمجتمع المدنى والرأى العام فى فلسطين وباقى دول المنطقة.

أكثر أشكال تفاعلنا مع هذه الحركة شيوعا حتى الآن هو الاستشهاد بها على وسائل التواصل الاجتماعى بمنطق «وشهد شاهد من أهلها». وهذا أمر مفيد فى ذاته، لأنه يصل بأصواتنا حول حقيقة إسرائيل إلى دوائر ما كنا لننفذ إليها منفردين، ولكن الأهم أنه ساعدنا بجرأته على استرجاع ذاكرتنا ونفض ركام تضليل ممنهج استسلم له بعضنا، وتنازلات طوعية قدمها أغلبنا عن غير اقتناع، سعيا وراء سراب تسوية بشروط الدولة الصهيونية.

ولكن ظنى أننا مطالبون بأكثر من ذلك. مطالبون بأن نعبر عن اعترافنا وتقديرنا لشجاعة وسمو وتضحيات هؤلاء اليهود، اللذين وضعوا أنفسهم فى مواجهة، ليس فقط مع مراكز قوى فى مجتمعاتهم، وإنما أيضا ــ وهو الأصعب ــ مع غالبية بنى جلدتهم وأسرهم وأصدقائهم، لأسباب أخلاقية محضة. وأنا أكتب هذا المقال ــ قبل أى شىء ــ لأفى بواجب الاعتراف والتقدير لشجاعة وأخلاقية هؤلاء اليهود، لأنى أرى فى هذا الاعتراف الحد الأدنى المطلوب لبناء تضامن يؤسس لتحالف مؤثر فى لحظة قد لا نراها الآن.

لكننا مطالبون بما هو أهم لدعم هذه الحركة: التفكير والتعبير عن صيغة آمنة للوجود اليهودى المستقبلى فى فلسطين والمنطقة العربية بدون تلك الأيديولوجية الاستعمارية. فنحن نكرر بسهولة ــ وعن حق ــ أن اليهود كانوا قبل الصهيونية جزءًا طبيعيا من فسيفساء مجتمعاتنا، وأن معاداة السامية داء أوروبى حُمِّلنا ثمنه دون مبرر. ولكننا لم نجرؤ بعد على استعادة ذاكرتنا حول هذا الماضى، الذى تعمدت الصهيونية نسفه، لتخيل مستقبل تعايش حقيقى فى فلسطين وفى منطقتنا مع يهود يلفظون الصهيونية.

وقبول حل الدولتين ــ فى حد ذاته ــ يتفادى تناول قضية التعايش والمساواة وينجر مباشرة لمنطق الصهيونية المغلوط حول متطلبات التحصين المادى لدولة تجسد كل الدروس الخاطئة للمحرقة. فى حين أن المطلوب لفتح الأبواب على حل -أى حل- هو التخلص من التمييز والاستعلاء والاستغلال الذى جلبته الصهيونية لنستبدل بها صيغة للتعايش السلمى المتساوى بين شعبين (الفلسطينى والإسرائيلى) فرضت عليهما تجربة تاريخية مريرة العيش على نفس الأرض.

فقط تصور مستقبل أساسه التعايش والمساواة يمكن أن يعطى يهود الخارج والداخل الإسرائيلى مساحة آمنة للفظ أيديولوجية فقدت الشرعية القانونية والأخلاقية ولم يبق لها سوى تغذية سردية الخوف الوجودى، وأن يقطع إلى غير رجعة ذلك الرابط المزعوم بين حرية فلسطين وإبادة اليهود. وكما نطالب بالقضاء على الخلط المتعمد بين معاداة السامية ومعارضة إسرائيل، علينا أن نلفظ كل خلط ــ متعمد أو غير مقصود ــ بين الصهيونية واليهودية، فهو لا يصب إلا فى مصلحة الصهيونية.

ولنتذكر، أن تصور التعايش والمساواة الذى أتحدث عنه هنا، هو نفسه الذى نحتاجه لبناء دولة المواطنة من تحت أنقاض دول هشمتها الطائفية والمذهبية فى منطقتنا.

قد يظن البعض أن الوقت ليس ملائما لتناول هذا الموضوع، ولكنى أرى أننا تأخرنا كثيرا فى تناوله بجدية كافية. ولنا فى استرجاع تصور حركة التحرير الفلسطينية المبكر حول إقامة دولة ديمقراطية علمانية ثنائية القومية فى فلسطين التاريخية مددا، لا باعتبارها النموذج الوحيد الممكن تخيله لحل الصراع فيما بعد الصهيونية، ولكن كدليل على وعى مبكر بأن خيال العيش المشترك مكون ضرورى لاقتلاع الأيديولوجية الصهيونية ومن ثم تحقيق السلام فى فلسطين الحرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved