القبلية الدينية من ديروط إلى فرشوط
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 5 ديسمبر 2009 - 10:10 ص
بتوقيت القاهرة
كثيرون انشغلوا بما جرى على صعيد العلاقات المصرية ــ الجزائرية، ونبه العقلاء منهم إلى تصاعد النزعات الغريزية على المستوى الشعبى تعبيرا عن شعور غير حقيقى بالانتماء. ذكرنى ذلك بالتفرقة المهمة التى أوردها عالم الاجتماع الأمريكى «روبرت بوتنام» بين نوعين من التضامن، أحدهما إيجابى والآخر سلبى أو مظلم على حد تعبيره. فقد ذهب إلى أن تجمع الأفراد قد يولد بينهم شعورا بالثقة والتضامن، وقد يجعلهم فى حالة مواجهة مع الآخرين المختلفين لإثبات كينونتهم، وهو ما أطلق عليه التضامن المظلم.
يقلقنى أن هناك شعورا بالتضامن «المظلم» يسرى، ويمزق الجسد الاجتماعى المصرى عنوانه الرئيسى الانقسام الدينى إلى قبيلتين، إحداهما مسلمة، والأخرى مسيحية. وتكشف أحداث «ديروط» ثم «فرشوط» عن تنامى، وترعرع هاتين القبيلتين. السؤال هو لماذا تحول «الاختلاف الدينى» إلى البردة أو الغلالة التى نخفى تحتها التباين الطبقى، والتكلس السياسى، والتفسخ الاجتماعى؟
(1)
فى حادثة ديروط قام شاب مسيحى يدعى ملاك فاروق هنرى بإقامة علاقة غير مشروعة مع فتاة مسلمة. لم يكتف بهذا، بل قام بتصويرها معه فى أوضاع مخلة بالآداب، وأرسلها إلى آخرين عبر الهاتف المحمول والإنترنت. آثار هذا السلوك الشاذ، خاصة مع اتساع نطاق العلم به ثأرية عائلة «أولاد حسونة» ــ أهل الفتاة ــ فقاموا بقتل والده عيانا جهارا لدفع العار عنهم. ومع إلقاء القبض على المتهمين اندلعت أعمال عنف وشغب فى ديروط طالت المسيحيين، وممتلكاتهم، وامتدت إلى كنائسهم، وخرج نحو ألف طالب من المعهد الدينى ينددون بما فعله الشاب المسيحى، ويطالبون بالقصاص.
لم يختلف الوضع كثيرا فى فرشوط حيث قام شاب مسيحى آخر بالاعتداء جنسيا على طفلة مسلمة، مما ترتب عليه ردة فعل عنيفة تجاوزت ما حدث فى ديروط، حيث جرى الاعتداء على المسيحيين، وتحطيم سيارات، ومحال، ومنازل مملوكة لهم، قدرت تقارير صحفية الخسائر فيها بما يتجاوز أربعة ملايين جنيه. وبينما هرب الشاب المسيحى فى ديروط، تاركا الموت لوالده، سلم الشاب المسيحى نفسه فى فرشوط، منتظرا الموت لنفسه.
فى الحالتين نجد «علاقة جنسية غير مشروعة فى صعيد مصر» تقبع خلف المشهد الثأرى. فى ديروط كانت العلاقة بين الشاب والفتاة اختيارية، أما فى فرشوط فكانت علاقة يسودها القهر والاغتصاب. فى كلا الحالتين الشعور بالعار يلاحق أسرتى الفتاتين، وهو أمر مفهوم ومبرر، ولكن ما علاقة «الدين» بما جرى؟ ولماذا لم تنصرف أسرتا الفتاتين ــ فى ديروط وفرشوط ــ إلى معاقبة الجناة، أو حتى أسرهم، دون أن تمتد يد الأذى إلى مواطنين أبرياء فى حياتهم وأرزاقهم ليس لسبب إلا لكونهم يشتركون فى «الاعتقاد الدينى» مع الجناة. وهو أمر غريب، لأن المعتقد الدينى، أى المسيحية، أو أى ديانة أخرى، لا يمكن أن تبرر الفعل الشائن للشابين. ولكن هكذا كانت المفارقة، أن يدفع مسيحيو ديروط وفرشوط ثمن عمل مشين لشابين مسيحيين، رغم أن المسيحية التى يجمعهم بالجناة الاعتقاد بها لا تقر ما جرى فى الحادثتين بأى حال من الأحوال.
(2)
ليست هاتان الحادثتان جديدتان على المجتمع المصرى. نعرف أن هناك علاقات كثيرة غير مشروعة، وأحداث اغتصاب بعضها يعلن عنه، وبعضها يجرى التكتم عليه خوفا من الفضيحة، وبلغ الأمر حد قيام بعض الرموز الدينية، إسلامية ومسيحية، بالإفتاء صراحة وضمنا بجواز إجهاض المغتصبة، وبعضهم لم يمانع فى إجراء عملية جراحية لها لإعادة عذريتها. ويكفى أن نتصفح صفحات الحوادث حتى نرى كم القصص والروايات التى تدور حول علاقات جنسية فى مجتمع بات يخشى الفضيحة ولا يخشى الرذيلة. هل هناك مجتمع «صحى» يحتفل بأعياده بممارسة التحرش الجنسى؟ هل رأيتم مجتمعا «صحيا» تشكو نساؤه ليل نهار من التحرش الجنسى فى الوقت الذى تزداد فيه مظاهر التدين الشكلى على نحو غير مسبوق؟.
نحن إذن أمام مجتمع غير صحى بكل المقاييس، اجتماعيا وأخلاقيا، والدليل على ذلك أن واقعة اغتصاب لفتاة يمكن أن تهز أرجاء مجتمع أوروبى، وتتصدر صحفه وقنواته التليفزيونية لأيام، فى حين أن قصة مشابهة فى مجتمعنا مكانها بضعة سطور فى صفحة الحوادث. لم تعد هذه الممارسات اللاأخلاقية تستفز المجتمع. من هنا فإن ما فعله هذان الشابان، فى ديروط وفرشوط، رغم عدم أخلاقيته، لا يشكل استثناء على حالة التردى الأخلاقى المتفشية، سواء أعلنا عنها أو لم نعلن، تكتمنا الأمر، أو صرحنا به. وفى كل الأحوال لم يكن الدين حاضرا فى الحوادث التى تحركها بواعث «جنسية»، حتى مع اختلاف ديانة أبطال هذه الحوادث. فلماذا فى ديروط ثم فى فرشوط نصف شابين مستهترين بهويتهما الدينية؟ وما علاقة ما يجرى من علاقات جنسية فاسدة، وغير مشروعة، بعلاقات طيبة بين المسلمين والمسيحيين تجمع الجيران، والعائلات، والأصدقاء فى ديروط وفرشوط؟
(3)
نحن إزاء قبلية جديدة، لا تقوم على رابطة الدم، ولكن تقوم على الرابطة الدينية. فقد انقسم المجتمع فى نظرته لنفسه إلى قبيلتين، إحداهما مسلمة، والأخرى مسيحية. هذا التقسيم أدى إلى الشعور بالتضامن المظلم بين أبناء كل قبيلة فى مواجهة القبيلة الأخرى، وترتب عليه الشعور بأن الخطأ الذى يرتكبه عضو فى قبيلة فى حق عضو فى القبيلة الأخرى يعد بمثابة «جرم» يلزمه القصاص عبر مواجهة مباشرة بين القبيلتين. حالة بدائية تجرنا إلى ما قبل الدولة الحديثة، حيث كانت المنازعات تنشب بين القبائل بسبب خلافات تافهة. هذا هو التضامن المظلم الذى تحدث عنه «روبرت بوتنام»، ويعبر عن حالة من الانتماء الشوفينى الممزوج بالغضب، والكراهية، ورفض المختلف، بل والاستعداد إلى الإساءة إليه إذا لزم الأمر. وإذا نظرنا إلى ما يطلق عليه الحوادث الطائفية فى العامين الآخرين سنجد أنها تنشأ حول خلاف تجارى بين شخصين، أو مشاجرة بين طفلين أثناء اللعب، أو رهن زجاجة مياه غازية فارغة. إلى هذا الحد وصل الشعور بالاحتقان إلى عنق الزجاجة، وبات أبناء كل قبيلة دينية فى حالة استنفار، وغضب، ورغبة فى الانتقام.
هذا ما فعلناه بأنفسنا، ولم يفعله أحد بنا. فمنذ نحو أربعين عاما يطلق الباحثون المخلصون تحذيرات بشأن تدنى مستويات التسامح فى العلاقة بين المختلفين دينيا فى المجتمع المصرى، لم ينصت أحد، وظل هناك اتهام جاهز بالطائفية لكل من حاول أن يعرى جذور المشكلة بحثا عن حلول مبكرة لها. اليوم نحن أمام كارثة حقيقية دون مبالغة. المجتمع فى حالة انقسام قبلى على أساس دينى، لم تعد مستويات التلاقى بين المواطنين المختلفين دينيا على الصعيد الاجتماعى مثلما كانت عليه فى السابق، وازداد تمحور الأفراد حول هويتهم الدينية، ليس بغرض التدين، أو التقرب إلى الله، ولكن بحثا عن إحساس وهمى بالتضامن فى مواجهة الآخرين. ليس مطلوبا الآن توجيه الاتهامات المتبادلة، والبحث فى الأسباب، ولكن وضع تصورات حقيقية لانتشال المجتمع من عثرته. الأمر المتيقن أن كل الأطراف تتحمل المسئولية بصورة أو بأخرى، ولا يوجد مساحة الآن لتبرئة طرف على حساب طرف آخر. الكل جلاد، والكل ضحية.