الفئة المحصنة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 5 ديسمبر 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
من عجائب الثورة المصرية، كما يقول زوار وصحفيون أجانب، إن الدولة مازالت تؤدى وظائفها الأساسية، وإن بكفاءة أقل. لم يتوقف نهائيا تدفق المياه النقية أو التيار الكهربائى ولم تنقطع المواصلات العامة فى المدن أو تصاب بالشلل شبكة السكك الحديدية واستمرت الطائرات تقلع وتهبط. . الفضل، بدون شك، يعود إلى الجهاز الإدارى للدولة.
بهذا الجهاز نفسه انتقلت حكومة عبدالناصر ومحمد نجيب بمصر من العهد شبه الليبرالى إلى ما يشبه الثورة والتغيير، وعندما استدرج ضباط سوريون حكومة الثورة فى مصر إلى مشروع دولة الوحدة اكتشف البيروقراطيون المصريون حقيقة وأهمية الجهاز الإدارى المصرى يوم وجدوا فى سوريا جهازا إداريا لا يزيد على حجم وكفاءة جهاز مكلف بإدارة محل بقالة، أو هكذا تفاخروا. و بالجهاز المصرى نفسه تجاوزت حكومة عبدالناصر هزيمة 1967 ودخل به أنور السادات حرب 1973 وأدار به مفاوضاته مع إسرائيل وكان لبعض ممثليه الفضل الأكبر فى الحد من التنازلات.
•••
لا أظن أن أغلبنا يقدر حق التقدير دور الجهاز الإدارى للدولة، ولنا وله العذر فى نقص الامكانات المادية المتاحة له لأداء وظيفته على خير وجه، فضلا عن التدخل المستمر من جانب السياسيين فى عمل الجهاز وتعيين كبار موظفيه لاعتبارات لا يأتى فى صدارتها بالضرورة شرط الكفاءة، فضلا على التقصير فى تقديم التدريب المناسب لاعضائه. لا يعرف الكثيرون فى مصر، وبينهم قادة فكر وسياسة وعلم، ان كثيرا من الفضل فى استمرار مصر كيانا موحدا، جغرافيا وبشريا يعود إلى هذا الجهاز الذى بدونه، أو لو انفرط وسط الفوضى الراهنة لا قدر الله، لانفرطت مصر كما كنا نعرفها وكما نريدها.
•••
درست تجربة التنمية السياسية فى الهند على يد أستاذ هندى مرموق. كنا كطلبة من كافة أنحاء العالم، نسأل دائما عن سر بقاء الهند موحدة. هذه الدولة التى يتحدث شعبها بأكثر من 20 لغة و122 لهجة ويدين بأديان وعقائد شتى ويذهب فى اختياراته الاجتماعية مذاهب متعددة. كيف ان هذه الدولة لم ينفرط عقدها يوم حصلت على الاستقلال من التاج البريطانى؟ كان البروفيسور نايار يجيب بقوله إن الهند لم تنفرط لأنها خرجت من الاستعمار مزودة بجهاز بيروقراطى عتيد كان يطلق عليه جهاز الخدمة الهندية. لم يزد عدد قادته على سبعين موظفا كبيرا، وبلغ عدد أعضائه يوم الاستقلال 322 موظفا يديرون أحوال أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة. يضيف الاستاذ نايار ثلاثة مؤسسات ساهمت مع الجهاز الادارى فى تحصين وحدة الهند وهى شبكة السكك الحديدية وجهاز قضائى ونواة مؤسسة عسكرية.
لم يبالغ رئيس الوزراء البريطانى حين أعلن فى مجلس العموم عام 1935 ان الامبراطورية تفخر بالجهاز الإدارى الهندى باعتباره «الاطار الفولاذى الذى تقوم عليه حكومتنا فى الهند». وجدير بالذكر أن جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، وكان من أشد الناقدين لاتجاهات بعض قادة الجهاز وولائهم للانجليز ثقافة وطاعة، استعان بهم وكان أبرز من اختاره من الجهاز وزيرا للخارجية المستر كريشنا مينون وكانت له جولات شهيرة فى الأمم المتحدة.
•••
فكر امبراطور الصين فى عام 207 قبل الميلاد أن يدعم الجهاز المكلف بإدارة الامبراطورية فاتخذ قرارا يقضى بأن يكون تعيين الموظف الإدارى عن طريق مسابقات تجرى على مستوى الامبراطورية لاختيار الأفضل والأكفأ. وما زالت الصين بعد مرور ألفى سنة تجرى هذه المسابقات السنوية. وقد لفت نظرى وأنا أتابع خلال الاسبوع الماضى عملية انتقال الحكم فى الصين من جيل إلى جيل أن دورة جديدة فى هذه المسابقة يجرى الإعداد لها. نحن هنا لا نتحدث عن إجراءات وترتيبات لمسابقة عادية إنما نتحدث عن حالة حشد قومى. تشير الاحصاءات إلى أن عدد المتسابقين هذا العام يصل الى حوالى 1.120.000 متسابق لاختيار عشرين ألفا منهم.
تختلف هذه المسابقة ــ التاريخية الشهيرة عن مسابقات أخرى تعودنا عليها فى بلادنا وغيرها من بلاد العالم. فالمتسابق يبدأ فى الاستعداد للمسابقة وهو فى سن الثالثة من عمره حين يتعلم أشكال ( حروف ) الكتابة الصينية، وفى سن الثامنة يدرس ما يعرف بالكتب الأربعة والكلاسيكيات الخمسة، أما الكتب فهى كتاب analects الذى يضم مجموعة الأفكار المنسوبة إلى كونفوشيوس وكتاب الوثائق وكتاب الشعر وكتاب الطقوس. ولا يستطيع المتسابق استكمال تدريبه واستعداده إذا لم ينجح وهو فى سن الطفولة فى ان يحفظ كل يوم 500 شكل (حرف) جديدا وكتابة قصيدة شعر تحتوى على ألف شكل من الكتابة الصينية، يلقيها فى أى وقت ومكان بدون الاستعانة بورقة. وفى مرحلة معينة، وبعد ان يتأكد المتسابق من أنه صار يجيد استخدام ما لا يقل عن 431.286 شكلا (حرفا) فى الكتابة الصينية، يتعين عليه أن يدرس مراحل متقدمة فى الجغرافيا والتاريخ والرياضيات والفنون ثم يختار مستوى المسابقة. هناك مستوى التعيين فى القصر الامبراطورى (الآن قصر الرئاسة والخارجية) ومستوى للتعيين فى العواصم المحلية ومستوى التعيين فى الريف والمناطق النائية. وفى كل الاحوال لن يعين إلا الأفضل ومن بين الأفضل لن يعين إلا الأكفأ. لا اعتبار اطلاقا للعائلة أو الصلة والطبقة الاجتماعية. ويكون معلوما لدى جميع المتسابقين منذ الصغر أن عقوبة الغش صارمة وتصل إلى الإعدام شنقا.
•••
لا خوف على دولة يدير شئونها قيادات بيروقراطية مؤمنة بدورها وواثقة من ولائها للوطن. يتغير السياسيون ويبقى سندة الدولة فى مناصبهم «محصنين» ضد طموحات النخب الحاكمة وأطماعها وخلافاتها ومحصنين ضد أهواء «العامة» وتقلباتهم وانفعالاتهم العاطفية.