سحــر الشـرق
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 5 ديسمبر 2013 - 7:00 ص
بتوقيت القاهرة
كل يوم يمر تزداد فيه ثقة الرئيس باراك أوباما فى صواب السياسة الخارجية الجديدة التى تبنتها إدارته. أقصد السياسة التى نقلت بؤرة التركيز الدبلوماسى والعسكرى للولايات المتحدة من الغرب الأطلسى و«الغرب» الشرق أوسطى إلى الشرق الباسيفيكى وبخاصة شرق آسيا. لفت انتباهنا وآخرين فى الآونة الأخيرة الزيادة المتصاعدة وتيرة وحماسة فى دعم الرأى العام للتوجهات الجديدة للسياسة الأمريكية. لاحظنا أيضا كيف أن دولا عديدة فى الغرب والشرق الأوسط استعدت لتنفيذ تغيير مماثل فى استراتيجيتها الإقليمية والدولية. لقد أصبحت الترتيبات اللازمة لتدريب كوادر دبلوماسية واستخباراتية على العمل فى شرق آسيا موضوعا يحتل الأولوية فى خطط كثير من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا، وتشير المتابعة المنتظمة والقراءة المتأنية فى تقارير دبلوماسية ودراسات أكاديمية فى بلدان كثيرة إلى ان موضوع تبديل بؤر النشاط الدبلوماسى الدولى من مجالاته التقليدية إلى مجالات أخرى فى الغرب أصبح الشغل الشاغل لدارسى العلاقات الدولية وممارسيها.
تتعاقب الأحداث العالمية فى اتجاهات بعضها فاجأ علماء العلاقات الدولية وصانعى الرأى وأغلبها أذهل لغرابته صانعى السياسة فى دول كثيرة ومسئولين فى مؤسسات دولية ومديرى شركات عالمية. تبرز أمامنا بوجه خاص ثلاثة تطورات استمرت تؤكد نوايا أطراف دولية ليست قليلة العدد مواصلة مسيرة التحول نحو الشرق. هذه التطورات، هى:
أولا: بشكل غير متوقع وبإقبال وحماسة أبدى الرأى العام الأمريكى، بل والعالمى، رضاه ثم دعمه للاتفاق المبدئى الذى توصلت إليه إيران، الدولة التى اختارت أن تتحدى الوضع القائم فى النظام الدولى مع الولايات المتحدة كمفاوض أساسى وقوة ملموسة مدعومة من الغرب كجماعة سياسية وكتلة حضارية. كانت بادية بوضوح خلال الشهور الأخيرة مؤشرات توحى بأن أمريكا تبذل ضغوطا قوية وجهودا فائقة لمنع إسرائيل من تصعيد صراعها مع إيران، وللعمل على تحجيم هيمنتها على الكونجرس والرأى العام الأمريكى ومؤسسات الاتحاد الأوروبى. كان واضحا أن إدارة الرئيس أوباما تحاول بكل الطرق إجهاض خطة إسرائيل لفرض الحل العسكرى فى قضية النووى الإيرانى. أظن أن النجاح النسبى الذى حققته أمريكا فى هذا الصدد، وأقصد كسر حدة التهور الإسرائيلى وتحرير يد أمريكا فى التصرف فى المفاوضات مع إيران، قدم دعما ملموسا لترتيبات خطة الانسحاب المنظم والمنتظم للقوة العسكرية الأمريكية من أوروبا الغربية والشرق الأوسط.
ثانيا: تصادف أنه فى الوقت الذى بدأت فيه الولايات المتحدة الاستعدادات لنقل بؤرة التركيز الاستراتيجى إلى شرق آسيا، كانت تجرى بهدوء وبتدرج عملية أخرى فى الشرق الأوسط هدفها نقل بؤرة تركيز استراتيجيات النفط فى الدول والشركات المنتجة والناقلة والمصارف المحولة، من موقعها فى الغرب ومضايق بحار المتوسط والأسود والأحمر إلى مواقع ومضايق جديدة فى أقصى الشرق.
يطلق أنطونى كوردسمان، الخبير ذائع الصيت فى شئون الخليج والاستراتيجيات الاقتصادية والعسكرية، على هذه العملية، عبارة «التحول الآخر» نحو آسيا، باعتبار أن التحول الأول كان أمريكيا وسياسيا وعسكريا. انشغلنا به طويلا. قضينا الشهور الماضية نتابع الاستعداد لعملية تحويل التركيز الأمريكى من الغرب إلى الشرق ولم نهتم بالتحول الحادث فعلا فى نظام النفط الدولى فى نفس الاتجاه.
يقول كوردسمان إنه يتوقع زيادة مفاجأة وكبيرة فى درجة اعتماد الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان على نفط الشرق الأوسط، فى وقت تقترب فيه الولايات المتحدة من تحقيق الاكتفاء الذاتى فى هذا القطاع، وفى وقت يعرف الجميع أن الطلب الأوروبى على النفط والغاز لن يزداد كثيرا، بمعنى آخر آسيا وليس أمريكا أو أوروبا ستهيمن على الطلب على النفط بكل أنواعه.
ينقل كوردسمان عن تقرير جديد لوكالة الطاقة الأمريكية مؤشرات تتوقع أن يزداد استهلاك النفط فى الفترة من 2010 إلى 2040 بحوالى 19.3 مليون برميل يوميا، يخص الصين وحدها 10.5 مليون برميل، ويخص الهند 5 ملايين برميل. ولما كانت الصين تنتقل تدريجيا إلى اقتصاد خدمات يصير متوقعا أن يزداد الطلب فيها على النفوط السائلة لتحل محل الولايات المتحدة كأكبر سوق مستهلكة للنفط المستخدم فى النقل والمواصلات، بينما تبقى الهند مستوردة بكثافة للديزل لخدمة الزراعة. كما ينقل كوردسمان عن وكالة الطاقة الأوروبية مؤشرات تؤكد ما ذهبت إليه الوكالة الأمريكية، جاء فى أحدها أن الصين سوف تزيد طلبها على النفط بنسبة 66٪ خلال الفترة المتبقية حتى 2030، وكذلك الهند التى سوف يزداد اعتمادها على النفط المستورد بنسبة 100٪. ولا يغيب عن الذهن الأهمية المتزايدة للغاز المستخرج من حقول إيران، فإيران حسب تقديرات الغرب تختزن فى أرضها وقرب شواطئها ثانى أكبر احتياطى للغاز فى العالم.
بمعنى آخر، وهو المعنى الذى يستحق أن يحظى باهتمام المسئولين عن صنع السياسة الخارجية المصرية والمسئولين فى دول عربية أخرى، يمكن فهم «التحول» نحو آسيا عموما وشرق آسيا خصوصا، على أساس أنه عملية مزدوجة تكاد، من وجهة نظرى، تتشابه مع عملية توزيع أنصبة الاستعمار فى مطلع القرن العشرين، حين كان النفط وعائداته معلما آساسيا فى كل الأقطار التى انشغل الغرب بوضعها وتحديد حدودها على الخريطة الجديدة التى كان يجرى رسمها فى ذلك الحين.
ثالثا: بالتزامن مع الإعلان عن اتفاق الغرب وإيران على التزامات مبدئية على الطريق لتسوية، وربما لتسويات شاملة فى الشرق الأوسط، أصدرت الصين إعلانا يقرر حدود منطقة الدفاع البحرى الصينية فوق بحر الصين الشرقى. المعروف أن جزيرتين صخريتين تقعان فى هذا البحر تختلف الصين واليابان حول ملكيتهما وتثير بينهما جدلا وتوترا متقطعا. طلبت الصين فى إعلانها ضرورة إخطارها مسبقا بالرحلات البحرية، مدنية كانت أم عسكرية، التى تمر فى أجواء المنطقة. احتجت اليابان وكوريا والولايات المتحدة وكلها أمرت طياريها بعدم الانصياع لتعليمات تصدرها القيادة العسكرية الصينية.
درجت الصين على أن تشن بين الحين والآخر حملة قومية بهدف تعبئة الشعب وراء قيادته، وبخاصة إذا كانت جديدة. فى كل مرة كانت الحملة تستهدف اليابان المتهمة دائما بأنها عاملت الصينيين أثناء احتلالها لبلادهم قبل وخلال الحرب العالمية الأولى معاملة مهينة. الأهم فى هذا الشأن أنها، أى اليابان، كانت ترفض بإصرار الاعتذار الصريح عن أفعالها أو حتى الاعتراف بها. تكرر الموقف خلال الأسابيع الأخيرة بمناسبة احتفالات فى اليابان تذكر بأمجادها الخارجية، وبمناسبة زيارة مفاجئة قام بها رئيس الصين لموقع من المواقع التاريخية المشهود لها بأن سكانها تعرضوا للإهانة على أيدى اليابانيين.
تريد اليابان كغيرها من دول شرق وجنوب شرق آسيا، التلويح لأمريكا بضرورة الإسراع فى نقل اهتمامها إلى آسيا قبل ان يستقر الأمر للصين كقوة إقليمية مهيمنة، وتريد الصين أن تبلغ أمريكا بأنها لن تنتظر انتقالها أو نقل اهتمامها إلى شرق آسيا، فالمؤشرات جميعها والتاريخ أيضا فى صفها.