الصدق والكذب فى السياسة
سمير كرم
آخر تحديث:
الجمعة 5 ديسمبر 2014 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
لا يزال من الصعب إلى أقصى الحدود التمييز بين الصدق والكذب فى السياسة. ويبدو أن هذا كان الحال منذ أقدم الأزمنة فى حياة الإنسان. أى أننا نستطيع أن نؤكد أن صعوبة كشف الكذب لم يطرأ عليها أى تغيير أو بالأحرى تقدم. وكذلك على الرغم من أن حياة الانسان اختفت منها الأسباب التى كانت تعود للكذب مع اتساع نطاق النزعة العملية فى الحياة الانسانية بشكل عام. وربما يقودنا هذا الاعتقاد إلى اعتقاد بأن الانسان أصبح فى الحياة المتقدمة أقل احتياجا إلى الكذب وأكثر احتياجا إلى الصدق.
وعلى سبيل التحديد فإن الانسان أصبح فى التمييز بين الصدق والكذب أكثر تمييزا بسهولة بين هذا وذاك. وبالتالى فإن ميله إلى الكذب أصبح أكثر انحسارا بفعل سيطرة القواعد العامة الموجهة نحو الصدق سواء فى العمل أو فى العلاقات الانسانية. وربما يميل بعضنا إلى الاعتقاد بأن قاعدة التمييز بين الصدق والكذب أصبحت أكثر وضوحا فى العلاقات العملية بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والجماعة. وعند هذه النقطة يمكننا ان نقول إن الكذب ربما يكون قد اختفى أو على الاقل تراجع بين الدول فى علاقاتها العملية والدبلوماسية. ولا يرجع ذلك إلى تراجع امكانية الكذب عمليا فى علاقات تحكمها الاتفاقات الرسمية بين الدول. لكن لا تزال احتمالات الكذب واردة فى تصريحات المسئولين الرسميين خاصة فى العلاقات الرسمية بين الدول.
•••
ربما تكون هذه المقدمة عن الصدق والكذب فى العلاقات الدبلوماسية بين الدول قد طالت إلى حد لا يمكن احتماله. ولكن اذا راجعنا مواقف الدول المختلفة والتنظيمات المختلفة إزاء مواقفها ومواقف الغير ربما نكتشف أن معايير الصدق والكذب لا تزال تلعب ادوارا مهمة فى هذه العلاقات، ليس فقط بين الدول إنما أيضا بين الدول والتنظيمات غير الرسمية المعترف بها وتلك التى لا تلقى هذا الاعتراف. فإذا خرجنا من المقدمة نجد أننا بالفعل بصدد تصريحات لا تقبل التصديق وتصريحات متناقضة فيما بينها ونحن نواجه مواقف الدول الرسمية ومواقف التنظيمات غير الرسمية التى تعبر عن سياسات تنظيمات لا يمكن وصفها بالرسمية.
وعلى سبيل المثال والحصر فإن الولايات المتحدة ــ وهى بمقاييس مختلفة الدولة الاقوى عسكريا والأكثر بروزا من النواحى الاقتصادية والتكنولوجية وربما حتى النواحى الفنية ــ تبدو تمارس الكذب بشأن علاقاتها الخارجية وخاصة علاقاتها مع المنظمات غير الحكومية التى ترتبط بها منذ زمن بعيد أو تلك التى لم ترتبط معها بعلاقات إلا قبل فترة زمنية وجيزة. وتبدأ لعبة الكذب من جانب الولايات المتحدة فى هذا الصدد بالإنكار. ان الولايات المتحدة تنكر ارتباطها بعلاقات مع منظمات أو تنظيمات ارهابية. وذلك على الرغم من أنها فعلت ذلك قبل سنوات طويلة. وأكثر هذه العلاقات وضوحا تلك التى كانت قد بدأت عندما ارتبطت أمريكا بتنظيمات ارهابية فى افغانستان عندما كانت هذه التنظيمات هناك تخوض حربا ضد الوجود السوفييتى. واليوم فإن انعكاسات هذا النوع من العلاقات قد تبدلت لأن الولايات المتحدة اصبحت تنكر أى ارتباط لها مع التنظيمات القديمة التى كانت تناهض الوجود السوفييتى وهى الآن تناهض الوجود الأمريكى المسيطر على أفغانستان.
•••
ولقد زادت حدة العلاقات بين الولايات المتحدة والتنظيمات المرتبطة بتلك التى تحارب فى أفغانستان. فإن هذه الروابط تسير فى اتجاه واحد تسير فيه الولايات المتحدة كما تسير فيه التنظيمات الارهابية المسلحة التى تحارب الآن فى سوريا والعراق، وربما أيضا فى مصر وإن لم يتضح لها دور محدد. إن الامر الذى لا يمكن انكاره من جانب الولايات المتحدة هو أنها تسلح وتمول التنظيمات الارهابية التى يفترض فيها أن تعادى الولايات المتحدة وأن تعاديها الولايات المتحدة فى الوقت نفسه. وهذا وضع من المؤكد ان يكون قد ادخل الارتباك والشك على مواقف دول كثيرة وخاصة دول الشرق الأوسط والدول الاوروبية ومختلف الدول التى تنتظر منها الولايات المتحدة أن تقف فى صفها فى هذه الحرب. ولهذا يتردد الآن السؤال عما اذا كانت الولايات المتحدة تريد حقا القضاء على أى من هذه التنظيمات الارهابية مثل داعش. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن اطلاق أحكام نهائية على مواقف الدول الشرق أوسطية التى يفترض أنها تؤيد مواقف الولايات المتحدة فى هذه الحروب. وعلى سبيل المثال مواقف دول مثل الأردن. بل يمكن ان نلمح فى موقف مصر من السياسة الأمريكية فى المنطقة ــ بين تأييد ومعارضة الاتجاه الأمريكى، ما يمكن أن يدل على أن مصر لم تستقر بعد على موقف محدد إزاء هذا التناقض فى الموقف الأمريكى الذى يؤيد التنظيمات الارهابية فى ناحية ويعارض هذه التنظيمات نفسها من ناحية أخرى.
•••
لقد وصل الأمر إلى حد طرح التساؤل: لماذا لا تريد أمريكا القضاء على داعش؟ ويظهر بوضوح هنا أن مصير داعش يهم أمريكا بشكل جازم، إنما فى تجاه مقاومة داعش بالسلاح فى ناحية ودعم داعش بالسلاح فى ناحية أخرى.
ولعل أقرب السبل لكشف هذا الازدواج فى الموقف الأمريكى مقارنته بالموقف الروسى. لقد تبين أن روسيا لا تناقض نفسها على أى نحو فى دعم دول كانت قد ايدتها منذ سنوات أو معارضة دول أخرى عارضتها قبل سنوات. والولايات المتحدة تفعل العكس تماما الآن. فهل تستطيع أن تستمر فى السير فى الصدق والكذب فى وقت واحد؟