صمت وكلمات معدودة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 19 ديسمبر 2018 - 2:39 م
بتوقيت القاهرة
اختفى صوتى لمدة يوم بسبب البرد، فاضطررت أن أقتصد فى الكلام وأركز على ما هو ضرورى، ويا له من تمرين! لطالما كنت مقتنعة أنه من الممكن أن يعبر أحدنا عما يريده بشكل أكثر دقة وأقل مفردات، لكنى لم أتخيل كمية الكلام غير المفيد الذى ننطق به طوال النهار! أتفحص الكلمات كما كانت جدتى تتفحص البرغل على صينية لتخرج منه الشوائب: كيف أختار الكلمات المفيدة فقط؟ كيف أنقل ما أريد قوله دون لف ودوران؟
***
قرأت منذ عدة أسابيع مقالا ساخرا بعض الشيء كتبه باحث أثق بطرحه للمسائل الفكرية، قارن فيه بين نصين، أحدهما استخدم كلمات مقتضبة ودقيقة والآخر نصا مليئا بكلمات مزركشة للتعبير عن الفكرة ذاتها. أعيد النظر فى طرق التعبير: ما هى الكلمات التى أحتاجها؟ ما هو عدد المفردات الضرورية لإيصال الفكرة وما هى «الحواشى» التى يمكن الاستغناء عنها دون التأثير على المعنى؟ هل من الممكن فعلا الاستغناء عنها، أم أن تجريد الفكرة من التجميل قد يسلب منها شيئا أساسيا، كوصف يساعد على تصور الموضوع، أو كلمات تنقل القارئ أو المستمع إلى جو لا يمكن الانتقال إليه دون التفاصيل؟
***
فى اللغة الفرنسية تعبير «لغة وردية» أو «كلمات موردة»، ويعنى الفرنسيون بذلك الكلمات المعسولة التى تضيف بعض المجاملة إلى موضوع، فتقلل غالبا من قيمة المضمون، إذ يفترض أن الكلمات الوردية تغطى على ضعف الفكر وتشغل من يسمع أو يقرأ بجمال الحاشية على حساب قوة الفكرة.
***
للأمانة فإن موضوع دقة التعبير فى مواجهة تجميل الفكرة هو موضوع يشغلنى بحكم عملى فى مجال الإعلام والكتابة، وأيضا بحكم اهتمامى باللغات وباختلاف أسلوب التعبير من ثقافة إلى ثقافة، لذا فكثيرا ما أتوقف عند مادة للنقاش لأفندها من منطلق الكلمات المستخدمة وأحاول أن أفك شيفرة ما أراد صاحب الموضوع طرحه، أحاول أن أستشف ما إن كان للمتحدث رسالة بين الكلمات وبين السطور يأمل أن تصل إلى المستمع أو القارئ. تطلب أمى من صديقة «ألا تعذب نفسها» بمعنى أنها، أى أمى، لا تريد للسيدة أن تزورها. أو تعد صديقة أخرى أنها سوف «نقف معك فى الأفراح» بمعنى أنها ممنونة لوقوف صديقتها معها وتعدها بالمثل.
***
لنعد إلى موضوع اختفاء الصوت وضرورة التقنين فى الكلمات: ماذا لو فقدت قدرتى على الكلام سوى لكلمات معدودة يوميا؟ بغض النظر عن النكتة التى يمكن إطلاقها حول فرصة زوجى أن يرتاح من الضوضاء ومن كلامى الكثير، إنما لنفكر بجدية. أفقد القدرة على النطق، صوت ضعيف يخرج حين أدفع بالهواء من داخلى إلى خارجى رغم ضوضاء داخلية. ماذا أفعل؟ طبعا سبقنى إلى حالة كهذه الكثيرون ممن فقدوا القدرة على الكلام لأسباب عضوية أو نفسية. بعضهم استطاع التعبير بطرق أخرى كالكتابة أو حركة اليدين أو حتى حركة العيون والرموش كما فعل الصحفى الفرنسى جان دومينيك بوبى، الذى شلت حركته تماما وفقد قدرته على الكلام إثر جلطة أصابته، فاستخدم إشارات بعينيه للتعبير وحتى لكتابة مذكراته التى تحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائى.
***
لكن إن افترضنا أن معظمنا لا يملك قوة عزيمة الكاتب الفرنسى ولا قدرته على التغلب على قدره، ما معنا أن نفقد صوتنا؟ ما هى لائحة الكلمات التى لا بد منها من أجل تسيير الحياة اليومية؟ الكلمات التى لا يمكن أن ندعها تختفى ولا سبيل للتواصل دونها؟ التعبير عن أقوى العواطف: أحبك، غضبانة، لا أريد، اشتقت لك، ثم التعبير عن أكثر ما أحتاجه: جائعة، عطشانة، نوم. لنكبر الدائرة: فرحانة، حزينة، فخورة، مكسورة. ماذا عن الألوان؟ كيف أقضى حياتى دون ألوان؟ أحمر، أزرق، أصفر، أبيض وأسود، لنبق إذا مع الأساسيات وبإمكانى أن أتصرف مع الثانويات فيما بعد. يا إلهى، كيف لم أذكر أسماء من أحب؟ طبعا تدخل أسماء زوجى وأولادى وأمى وأبى وأخى فى اللائحة القصيرة، ثم أسماء أصدقائى المقربين، ويلى ذلك أسماء شوارع لطالما التصقت على أرصفتها كلماتى وأنا أمشى، إما لأنى أحدث من مشى معى أو لأنى حين أحدث نفسى، تقع كلماتى على الرصيف.
***
كيف ألتقى بمن أحب دون «أهلا وسهلا؟»، كيف أسمع خبرا سعيدا دون «يا ألف نهار أبيض؟»، كيف أتلقى نبأ رحيل عزيز دون «أخد قلبى معه؟».. أهى كلها «كلمات وردية» أم أننى فعلا سوف أشعر أن قطعة من قلبى انفصلت عنى يوم يرحل ابنى من بيتنا إلى حياته الجديدة؟ لا يستسيغ زوجى المصرى عبارة «تقبر قلبى» التى تقولها الأمهات السوريات لأولادهن، رغم اعتياده على جملة مصرية مشابهة فى المعنى هى «يجعل يومي قبل يومك» ــ لكن فى تلك اللحظة التى أضم فيها من أحب حتى يكاد يدخل إلى قلبى، لا أجد طريقة أخرى أعبر فيها عن رغبتى فى أن يبقى حيا طالما أنا أيضا حية، لأننى لن أقوى على فراقه. إن اختفت منى القدرة على الكلام، فإنى أريد أن يعرفوا معنى أننى أحبهم، بأى كلمات كانت، لا يهم.
كاتبة سورية