واحات محمد عناني المصرية
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 6 يناير 2024 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
مر عام كامل على رحيل الدكتور محمد عنانى (1939ــ2023)، أستاذ الأدب الإنجليزى بكلية الآداب جامعة القاهرة، والمترجم الموسوعى صاحب الأعمال المدهشة؛ كما ونوعا، وأحد أبرز المثقفين المصريين فى نصف القرن الأخير!
وعلى الرغم من أننى لم أدرس فى قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، ولم أتتلمذ على عنانى فى قاعات المحاضرة بل ربما لم ألتقه بشكل مباشر إلا مرات محدودة للغاية وعابرة، فإننى أعتبر نفسى مدينا له بجزء لا يستهان به فى معرفتى اللغوية، والأدبية، وفى مناحى الثقافة العالمية قاطبة!
تعرفت على محمد عنانى فى سن مبكرة للغاية، وقد كان نشطا ومذهلا فى نتاجه الموسوعى؛ تأليفا وترجمة وكتابة للمقال، وتحريرا للكتب، وإعدادا للمختارات الشعرية والتراثية، ومقدما للمكتبة العربية عشرات الأعمال المختارة بعناية فائقة، لغويا وجماليا وإبداعيا وقيميا، فيما عرف أو اشتهر بسلاسل روائع المختارات (الشعرية؛ التراثية؛ المسرحية.. إلخ) .
ــ 2 ــ
شىء يصيب متابعه بدوار حقيقى من التعدد والتنوع والغزارة التى كانت تسم إنتاجه، وأظن أن حقبة التسعينيات من القرن الماضى هى ذروة تفجر إبداعه ونشاطه فى كل مناحى الإبداع والترجمة.
لم أكن جاوزت الثالثة عشرة بعد (وربما الخامسة عشرة) حينما وقع فى يدى كتيب صغير للغاية من إصدارات سلسلة (تراث الإنسانية) فى إصدارها عن مكتبة الأسرة عام 1994، بعنوان «مختارات من شعر شكسبير» وجذبنى الرجل بسلاسة أسلوبه وجزالة لغته العربية، وتدفق كتابته وغزارة مادته، كانت هذه الكتيبات «تعليمية» بامتياز، ولم يتخل فيها «عنانى» عن حس المعلم الشارح الذى يريد أن يأخذ بأيدى المقبلين على المعرفة والراغبين فيها، ويتحسسون طريقهم على استحياء، فيجدون يدا حانية تربت عليهم، ومعلما صديقا يقدم لهم العون والمساعدة، وييسر عليهم الخطو، ويشير عليهم بيد الإرشاد والنصح «لا التوجيه» إلى أول الطريق، فيسيرون غير وجلين ولا هيابين، ويكتسبون من ثمة الثقة المطلوبة لقطع مزيد من الخطوات والتوغل فى الطريق.
كان عنانى بارعا فى ذلك كل البراعة، وكانت مقدماته المستفيضة التى صدر بها ترجماته لعبقرى المسرح الإنجليزى عبر العصور شكسبير دروسا قيمة فى اللغة والترجمة الأدبية، وفى قراءة التراث الأدبى «العالمى»، وفى البحث المناظر فى تراثنا القومى، كان عبقريا ومدهشا ومثقفا حقيقيا من طراز رفيع.
ــ 3 ــ
ثم فاجأنى فى نهاية التسعينيات بكتابة سيرته الذاتية الأدبية الممتعة (أكرر الممتعة!) واحات العمر التى صدرت فى ثلاثة أجزاء على مدى خمسة أعوام (1998ــ2002)، ثم ألحق بها جزءا رابعا بعنوان «حكايات الواحات» لتشكل ــ فى مجموعها ــ السيرة الذاتية الكاملة لمحمد عنانى منذ مولده عام 1939 وحتى نهاية العام 2005.
وأنا من عشاق السيرة الذاتية والمفتونين بقراءتها، وأراها (أى السير الذاتية) المرايا الحية والصادقة والدالة على تحولات وتطورات ونتوءات المجتمعات والثقافات التى كتبت فيها هذه السير.
وقد لاحظت أن بعض السير الذاتية المعاصرة تعد فعلا من أكثر السرود مقروئية وانتشارا؛ لأنها توثق مسارات حياة بعض الشخصيات فى عمقها البعيد، وتتسم بالجرأة والصراحة والبوح الذاتى الذى يحمل انكسارات الذات، ومصاريعها وهزائمها، ولحظات الفشل والألم والعذاب الشخصى، وتكشف عن بعض أو كل مساحات الضعف والصغائر التى خايلت الكاتب، وسيطرت على بعض تفكيره أو سلوكه فى حركته العامة إزاء الآخرين أيا كانت مواقعهم أو مكانتهم، وكثير مما ذكرت وجدته فى سيرة محمد عنانى.
وسيرة عنانى بأجزائها المتعددة تمثل خيطا متصلا من الأحداث الأدبية فى فترات ثلاث؛ فالجزء الأول يختص بالجذور والنشأة والتكوين (1945ــ1965)، والثانى يتناول فترة التخصص العلمى فى الخارج والاصطدام بثقافة أجنبية (1965ــ1975)، والثالث يتناول العودة إلى مصر والعمل بالكتابة المسرحية والنقد والترجمة حتى نهاية العمر الوظيفى الرسمى (1975ــ2000). وقد جمعت الأجزاء الثلاثة بين دفتى مجلد واحد، ما دام الخيط الزمنى ممتدا ولم ينقطع؛ وذلك حتى ييسر على القارئ العربى متابعة الأحداث الأدبية التى يرويها، فهى أحداث متصلة يفضى بعضها إلى بعض، ويصب بعضها فى البعض، وهى «ذاتية» لأنه يرويها من وجهة نظره الخاصة، ولكنها «موضوعية» أيضا لأنها تتناول الأحداث الأدبية (والثقافية) العامة فى مصر فى النصف الأخير من القرن العشرين، وتعتبر من ثم شهادة على عصر التحولات الكبرى فى المجالات الأدبية المذكورة؛ فى المسرح، وهو الفن الأدبى الذى أحبه وأبدع فيه، وفى النقد، وهو الفرع الأدبى الذى مارسه بحكم التخصص العلمى، والترجمة وهى النشاط الذى توفر عليه احترافا وهواية، بل وحبا جارفا كاد أن يجور على باقى إسهاماته فى المجالات الأخرى.
ــ 4 ــ
ويبدو أن الأجزاء الثلاثة لم تف بما كان يريد الدكتور عنانى قوله كله، وهكذا، وبعبارته نفسه «ولقد عدت إلى زيارة هذه الواحات هذا العام (2002)، فوجدت حكايات كنت أهملتها فى غضون حرصى على التسلسل الزمنى الصارم لواحات العمر، وألح على بعض الأصدقاء ممن أكن لهم الاحترام والتقدير والحب أن أفرد لها كتابا يكون ذيلا أو ذيولا للواحات، ففعلت ذلك»، وصدرت بالفعل فى مجلد مستقل بعنوان «حكايات الواحات» باعتبارها حواشى «واحات العمر».
وللأمانة فقد احتفظ عنانى فى هذه «السيرة الأدبية الكاملة» بكل ما تميزتْ به الأجزاء المستقلة، ولم يشأ أن يغير شيئا منها، بما فى ذلك التصديرات والمقدمات، عسى أن «يجد فيها القارئ صورة لعصر كامل من التحولات، بألوانها المختلفة وكل ما تحفل به من تضارب أو اتساق؛ فالسيرة الذاتية الأدبية تجمع بين خصائص الأدب وخصائص التاريخ، وفيهما ما فيهما من فن وتسرية».. وهكذا اتسق وانتظم عقد السيرة الذاتية الكاملة لعنانى.. وفيها الكثير والكثير مما يروى ويقرأ ويحلل.. (وللحديث بقية)