إلى أم كلثوم فى ذكراها

داليا سعودي
داليا سعودي

آخر تحديث: الإثنين 6 فبراير 2017 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

سيدتى الكريمة..
بعد التحية العطرة المتجددة فى ذكراك عاما بعد عام، أسرُّ إليكِ بهذه المناجاة فى عز اشتداد برد الشتاء العاصف، فى ذكرى أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، التى لم تخلُ ميادينُها من إنشادِ قصائدك وترداد أغانيك. فعلى الرغم من مرور كل تلك السنين على رحيلك، كان صوتُك ملازما لى فى ثورتى، أو لنقل فى المرحلة الوردية من ثورتى، تلك الأيام المجيدة الثمانية عشر، التى أنشدتُ فيها «ثوار.. ثوار ولآخر مدى ثوار»، أنا المخلص لك دوما شعب مصر، الذى لا يعرف المستحيلَ، ولا يرضى بالخلود بديلا، وإن كنتُ رضيتُ على مر العصور بفتات الخبز وهوان الحال.

ملهمتى وأيقونتى..
لم أعرف موهوبة أخذتْ مثلك موهبتَها مأخذ الجِدِّ بهذا القدر من الصرامة والإحسان. ولم أعرف رمزا جسّد فى مخيلتى الشعبية حلم رقى الوطن بهذا القدر من الاكتمال: الفلاحة المصرية الفقيرة تخرج من أعماق القرية فى مفتتح القرن الماضى، فتظهر مربـِّـتـة على كتف أبى الهول فى تمثال مختار، قبل أن يصدح صوتُها متحررا طليقا فى صعوده فى سماء الفن ليصبح كوكب الشرق الدرى. فأى إلهام أكبر وأى جمال!
لكن جمالك يا سيدتى ليس محض طلاوة صوت أو حسن أداء، وهو ليس مجرد قدرة استثنائية على الارتجال، والسباحةِ بين المقامات، وانتقاءِ الزخارف الصوتية فى مواضعها. إنما جمالك الملهِم حقا هو مشروعٌ نهضوى كامل يقوم على استبطان روافد الثقافة المصرية الأصيلة فى سريانها بين قلاع الوجدان العربى الراسخة. هو استرجاع الموروث التليد من ألحان القصور العباسية، ومجالس الغناء والطرب الأندلسية المزدهرة قبل حروب الاسترداد ومحاكم التفتيش، ذلك الموروث المعتّق الذى احتفظتْ به ذاكرةُ الطرق الصوفية وعادت تبثه فى تنويعاتٍ جديدة خلّاقة، طـبـَّعت الغناءَ بطابع الحنان، وأعادته إلى أصله كسبب لترقيق القلوب، وتطهير الأرواح، واستنهاض الهمم، ثم أشاعته فى سرادقات المدائح النبوية وفى حلقات الذكر فى القرى وفى الأحياء الشعبية، حيث كنتِ أنتِ فى الانتظار، تلتقط أذنُك تلك الثروة وتتهيئين للخروج عليها بثورة.
فجمالك يا فاتنتى هو النجاح فى المزج بين ثروة هذا الموروث التقليدى العريق وبين روح الثورة المجددة للمعانى والألحان والقيم الاجتماعية، الصائغة لحداثة نابتة من تراب الأرض المصرية الطينية الخصبة المرويـَّـة بمياه النيل العظيم. حداثةٌ تُـبدد حالة الانفصام التام عن الهوية التى سادت عند مفتتح القرن الماضى قبيل بزوغ نجمك، حين تسيَّـدَتْ الساحةَ الفنيةَ حالةٌ من الاضمحلال والسوقية فى المعانى والألحان استتبعها الاستعمارُ البريطانى فى ركابه، وما أشبهها بحالنا اليوم!
***
ثورةٌ أشعلتْها معانيك وألحانك، تعلمتُ منها الكثير
أما المعانى، فقد قاد ثورتَها فى أغانيك أحمد رامى بلا منازع. وكنتِ التقيتِ به شابا عائدا من فرنسا يطمح أن يبرهن بشعره كيف يمكن للفصحى أن تكون طيّعة لينة، وكيف يمكن للعامية أن تكون راقية سامية. فكان منه أن أهداك معجما لفظيا شديد الثراء، حتى أننى أحصيتُ فيه عشرات المرادفات للفظة «الحُبّ» وحدها، الحُب بدقائقه وظلاله وألوانه وأحواله وتجلياته وتحولاته. فأحصيتُ فيه «الصبابة»، و«الغرام»، و«الهيام»، و«العشق»، و«الحنين»، و«الهوى»، و«الجوى»، و«الكلف»، و«اللهف»، و«الشغف»، و«الدنَف»، و«الخلة»، و«الشوق»، و«الوجد»، و«الوصل»، و«الود»، الذى يتبدى تارة «مودة»، وتارة «وداد»، ثم«التتيم»، و«التعلق»، و«العلاق»، و«الشجو»، و«اللوعة»، و«التدله»، و«الوله»، إلى آخر قائمة لا تنتهى. ثم كان من شاعرك المحب أن تعامل مع كل لفظة، بمثل ما تعامل النفرى فى«المواقف والمخاطبات»، فأخرج اللفظة من جمودها المعجمى وأجراها مجرى الكائن الحى فى موقف بعينه فى حضرة المحبوب.
***
وفى بلد المحبوب، كانت هناك أيضا ثورة فى الألحان. تمت على مراحل واستعانت بفيلق من الفرسان.
ثمة تشبيه ذهب إليه الأديب يحيى حقى بهذا الصدد، فوصف ألحانَك مع زكريا أحمد بأنها صحبة فى نزهة بين الحدائق، ومع القصبجى بأنها تأمل لواجهة بناء فذ فى فن المعمار، ومع السنباطى بأنها وقفة نفسية عميقة أمام بحر هادر. وهو تشبيه جيد لا ريب لكنه يضيِّـق الحقيقة ويُبسّطها. فبمثل ما استطاع زكريا أحمد أن يصحبكِ بألحانه فى بساتين الورود، استطاع أن يمر بكِ، هو ورفيقه بيرم التونسى، على المقاهى الشعبية، لتخاطبى الفلاحين، والعمال، والحمّالين، والبنّائين، ومُلَّاح الزوارق. وبمثل ما استطاع السنباطى أن يقدم لكِ الموسيقى الفصحى المحافظة استطاع أن يفصح بلحنه الراقص فى «هل رأى الحب سكارى» عن وجه آخر تماما. ولعل هذا الخروج عن النص السنباطى كان نتيجة للثورة الموسيقية التى قادها محمد عبدالوهاب معك بدء من عام 1964. فبدء من «لقاء السحاب»، حدثت ثورة موسيقية حقيقية تلخصت فى أيديولوجية عبدالوهاب القائمة على «دمقرطة» الموسيقى، بمعنى إتاحة الموسيقى للجميع، بتقريبها وتحديثها وجعلها سائغة للملايين.
وهو اتجاه سلكه بليغ حمدى فى ألحانه معكِ أيضا، لكن ما ميز لقاءاتك مع عبدالوهاب هو تلك المبارزات الخطيرة التى كانت تتم أمام أعيننا على خشبة المسرح. فما إن يُرفع الستار حتى كانت تبدأ مبارزة بسلاح الشيش بين اللحن والصوت. اللحنُ يبدأ بمحاولة فرض سيطرته، فيصول ويجول، ويحاور ويداور، فيكسب أرضا، ويمهد لنصر، فما إن يبدأ الصوتُ العفىّ صولته حتى يدفع الغازى المتباهى إلى أقصى تخوم الحلبة، فيستعيد الأرض، ويبسط نفوذه، ويُبقى طرف سلاحه فوق عنق خصمه. وبالطبع كان اللحنُ يعاود الكر والفر فى الوصلات البينية، لكن الصوتَ كان يبقيه دوما تحت زمام السيطرة.
مرة واحدة، بدا فيها النزالُ أشبه برقصة فلامينكو أخيرة. كان ذلك فى الأغنية الأخيرة، «ليلة حب»، وبالتحديد قبيل المقطع الأخير، حين عزف عمر خورشيد على جيتاره الكهربائى منفردا، وردت عليه آلات الكمان، وصاحبتها ضربات الكاستانييت. كان اللحن يبدو فى رقصته الأخيرة مع الصوت مُباهيا متحديا، لسان حاله: مع السلامة، أنا باقٍ وأنتِ راحلة...

* كيف لمن جاب آفاق الجمال فى المعانى والألحان أن يرضى بواقع قبيح؟
*اليوم يا سيدتى بتُّ شعبا آخر، بعضى يخاصم بعضى. بعضى يغدر ببعضى. بعضى ينقم على بعضى. بتُ كيانا يحمل بين أعطافه ثَأْرات ثقيلات، وأضحى المُقسَّمُ فينى مقسّما، ولو أنعم الدهرُ بعودتك اليوم إلى جوارى لما استطعتِ أن تتغنى باسمى مجردا، كما شدوتِ به ذات مرة مزدهية «أنا الشعبُ، أنا الشعب». ولو فعلتِ لكال لك بعضى اتهاماتِ العمالة، أو قذفك بعضى الآخرُ بجـريـرةِ الخيانة، وساءَلك السائلُ باسم أى فصيل شعبى تتغنين يا أنتِ؟ وسيفزعك طغيانُ القبضةُ السلطوية على مجالات الإبداع، حتى لئن أردتِ إعادةَ غناء «أعطنى حريتى أطلق يديا»، لربما احتجتِ استصدار موافقةٍ أمنية..
وما أدرى، لعلك لو كنتِ حاضرة بيننا اليوم لأمكنك التخفيف من غلواء الشقاق، أو لربما انتزعتِ بصوتك الشجى وحضورك الساحر بضعا من نبتات الفتنة الخبيثة، وأنتِ من أفلحتِ فى سابقِ عهدٍ فى تهيئة مصالحة طبقية وإنْ وقتية، وفى استحداث توافقٍ عربى وإنْ عابر، حين كانت تهلُّ ليلةُ الحب من كل شهر، فتمتد كل الآذان مصغية لشدوك الفتّان من المحيط إلى الخليج، ويتوقف لاعبو النرد عن لعبهم ساهمين، وتخلو شوارعنا العربية إلا مِن رَجْع صوتك المنساب من أجهزة المذياع المضبوطة جميعها على«صوت العرب» المصرية.
أحبُ أن أتمسك بسذاجة الحالم وأن أصدق أن وجودك كان سيغير شيئا ولو بالقدر اليسير، وأن مثولك كتجسيد لحلمنا المشترك كان سيعيدنا إلى شىء من الرشد أو ينفحنا نفحة من الذوق السليم. لكننى أعلم أنك كنتِ جزء من منظومة متكاملة آمنت بالثورة وصدّقت حلمَ التغيير.
***
هكذا سيبقى جمالُك يا سيدتى بمثابة التكثيف الثقافى لنهضة مصرية عربية شاملة برقت فى سماواتنا كشهاب ثاقب ثم انطفأت، ليبقى صوتـُك كتباريح حنين العودة، يُـبقى آفاقَ الممكن مفتوحة، مثل كوكب درى أدفعُ بسناه ظلام اليأس، وأتبعُه كما تبع ملوكُ المشرق الثلاثةُ النجمةَ ذاتها حتى بلغوا مغارة الميلاد. أتبعه بيقين تجدد الميلاد، وإحياء النهضة، متى تَحققتْ أهداف ثورتى المشروعة: عدل، حرية، كرامة إنسانية!
و السلام ختام يا سومة، يا سيدتى، ونديمتى، وحبيبتى، وقمرى فى ليالى الشتاء الكابية.

المخلص لكِ دائما
شعب مصر الكريم الفقير

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved