معرض الكتاب يفعل ذلك
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 6 فبراير 2018 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
لست من أنصار الحديث عن القوى الناعمة «عمال على بطال» ورأيى الذى كتبته منذ سنوات هو أن الريادة فى أى مجال أمر تاريخى أو استجابة موضوعية لشروط توافرت فى بيئة ولم تتوافر فى بيئات أخرى مجاورة، وكنت أفهم النهضة المصرية التى واكبت نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فى هذا الإطار الذى يربطها بعملية تحديث شاملة اعتمدت على بنية مؤسسية لم تتوافر لبعض دول الجوار.
وكان لدى شعور بأن ثمة مبالغات كثيرة ترتبط بالمركزية المصرية مقارنة بالدول المجاورة التى عاشت زمن الانتقال من «الهيمنة الناعمة» إلى زمن «القوى الذكية» وعلى الرغم من ذلك يحدث دائما أن تفاجئك القاهرة بقيمة يندر أن تتكرر فى عواصم أخرى.
ويبدو لى أن معرض الكتاب أحد أبرز تلك المناسبات التى تستعيد فيها القاهرة قدرتها على المفاجأة وتسترد كل ما لديها من سحر وعطاء لتملك وجها حانيا لا أعرف من أين تستمده مصر وهى منهكة فى مشكلاتها اليومية.
تتحول مدينتنا العجوز طوال أسبوعين لنقطة جذب سحرى لعشرات المثقفين العرب الذين يطرقون أبوابها ويعمرون سهراتها دون دعوات رسمية أو بطاقات سفر أو فنادق تفيض بالبذخ.
وأنا لا أعرف عاصمة فى العالم الآن يمكن زن يجمع بين مواطنين سوريين أحدهما أيد الثورة على النظام والآخر عارضها لكن القاهرة تفعلها وتهيأ الطاولات التى يمكن حولها تجاوز الخلاف وتزكية الاختلاف.
وفى القاهرة أيضا يلتقى العرب الذين شردتهم المنافى أو أرهقتهم مدنهم فى حمى الصراعات هكذا جاء العراقى حسن بلاسم وهو أحد أشهر كتاب العالم الآن مثلما جاءت مواطنته إنعام كجه جى من باريس، ورشا الأمير من لبنان، وسلوى النعيمى من باريس، وأنيس الرافعى من المغرب، وربعى المدهون من لندن، ومن العاصمة ذاتها جاء الكاتب صمويل شمعون محرر مجلة بانيبال ليحتفى بكاتب مصرى نبيل هو علاء الديب ويكرس لذكراه العدد الجديد من المجلة التى بلغت عامها العشرين وعددها الستين وأراد ناشرها أن يحتفل بشبابها.
ولمصر أيضا يأتى الشعراء لتجاوز محنة الشعر والتصالح مع الجمهور فقد جمعت سهرة واحدة فى حانة أكثر من خمسة شعراء شباب قرأوا أشعارهم بصحبة الموسيقى وبدعوة من ناشر الفلسطينى خالد الناصرى الذى ينتصر معهم وبهم للمغامرة.
وهنا أيضا التف جمهور كبير حول الكاتب الكويتى سعود السنعوسى الذى جاء ليوم واحد وغادر بعد أن ظل لأكثر من ثلاث ساعات يوقع مؤلفاته لشباب يمثل أهم ما فى معرض الكتاب وهو بحد ذاته ثروة تنتظر من يقدرها أو يستثمرها بشكل صحيح.
والأكيد أن هذا الجمهور الجديد هو كلمة سر المعرض، الخلطة السحرية التى أوجدتها ديمقراطية المعرفة ومكنتها الوسائط التكنولوجية الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعى من بناء جسورها وتأسيس انحيازاتها بعيدا عن كل أشكال الوصاية، كما مكنتها أيضا من تجاوز محنة الأجيال القديمة والقفز فوق الاعتبارات الشوفينية القديمة التى كبلت وعيها بدوائر محلية ضيقة.
نحب معرض الكتاب بحالته الراهنة لأنه يستطيع أن يفعل ذلك وسنحب بلادنا أكثر لو نظرت دولتنا للمعرض بحب أكثر لأن مصر تستطيع أن تصنع معرضا أجمل من ذلك، ولذلك يحتاج المعنى الذى تجسده ظاهرة توافد المبدعين لمعرض القاهرة رغم مشكلاته التى نعرفها جميعا إلى نظرة أعمق وتأمل سياسى لعله يقود إلى تصحيح السياسات الثقافية التى تعاملت طويلا مع هذه المعانى بإهمال وتعامت عنها واكتفت بالإفراط فى نزعتها الشوفينية والمبالغة فى تقدير قدرتها دون وعى حقيقى بما ينبغى إنجازه أو العمل عليه.