مصر بحاجة لتداول سلمى للسلطة
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 6 مارس 2010 - 10:18 ص
بتوقيت القاهرة
أؤيد تماما وجود شخص بحجم ومقام الدكتور البرادعى فى الحياة السياسية المصرية، وصل لموقع الرئاسة أم لم يصل، المهم أن نخرج من حالة التكلس التى شهدتها مصر لسنوات طويلة.
وليكن دوره ومعه مؤيدوه هو تمهيد الطريق لحركة فاعلة قادرة لأن تصل بنا إلى حلم استقرار القواعد والمؤسسات الديمقراطية بما يفضى إلى تداول سلمى للسلطة.
إن الحياة ندرة واختيار وتضحية كما يقول الاقتصاديون. فإن اخترت أن تعمل فى مهنة بذاتها لبعض الوقت فقد ضحيت بأن تعمل فى مهنة أخرى خلال نفس المدة، والرشاد يقتضى أن يكون ما تختاره أكثر نفعا على المستويين الشخصى والجماعى مما تضحى به.
ومن هنا ظهرت فكرة تكلفة الفرصة البديلة أى العائد الذى كان يمكن أن تحصل عليه لو أنك اخترت بديلا آخر. والأمر كذلك عند كل نظام حكم حين يختار بين البدائل المتاحة أمامه. فهناك من اختار أن يظل فى الحكم «ما دام فى الصدر قلب يخفق ونفس يتردد» كما قال الرئيس مبارك وهناك من آثر منهجا آخر يقول: «إن كان الحكم خيرا فقد نلنا منه وإن كان شرا فقد كفى ما كان» كما قال وفعل عظيم هذه الأمة عمر بن الخطاب حين رفض توريث الحكم لابنه عبدالله بن عمر.
وهو ما سار عليه عظام بنوا أمما وصنعوا دولا بحكمتهم وبصيرتهم وبعد نظرهم. والرئيس مبارك يسير على نهج كل حكام مصر السابقين ومعهم حكام بلدان العرب وملوك المسلمين الذين نسميهم مجاملة خلفاء، وكان لهؤلاء دائما منطقهم من الحديث عن الاستقرار وغياب البديل المناسب، والحب العظيم الذى يكنه أبناء الشعب لحاكمهم مع ملاحظة أن الأغلبية الكاسحة من أبناء هذا الشعب عادة لا يشاركون فى الانتخابات أو الاستفتاءات (هذا إن وجدت) ويكون منطق الحاكم أن «السكوت علامة الرضا» لكن علم السياسة المعاصر يراها على نحو مختلف حيث «لا ينسب إلى ساكت قول» كما قال الفقهاء قديما، فالصمت قد يعنى الرضا الناتج عن الإنجاز أو يعنى الخوف الناتج عن القهر، أو السلبية الناتجة عن الجهل.
القيادة صاحبة الرؤية الإستراتيجية تعلم أنه ليس معنى أنك تستطيع أن تظل فى الحكم حتى الموت، أن تفعل ذلك فعلا.
والسؤال المطروح فى هذا المقال: ما الذى تفقده مصر بأن تظل على نهجها بأن يحكمها من يحكم حتى آخر يوم فى حياته؟ وهل هذا من الرشاد السياسى؟
إن مصر تعانى مشكلتين أساسيتين تنتجان عن تمسك قيادتها بديمومة الحاكم على مقعد السلطة مهما حسنت نواياه وبلغت فراسته، وهما مشكلتان تعانى منهما بلدان العالم المتخلف الذى ننتمى إليه:
1ــ أولا ضعف آليات محاربة الفساد. فرغما عن أن التداول السلمى للسلطة لا ينفى وقوع الفساد واستغلال النفوذ لكن وجود تقاليد مؤسسية تقضى باحتمال أن يأتى إلى الحكم أشخاص لهم خلفية سياسية وحزبية مختلفة مع كل انتخابات جديدة توفر البنية المؤسسية التى تكشف عن الفساد السابق وتردع الفساد اللاحق. ولنأخذ اليابان مثالا. فلقد ظل الحزب الليبرالى يحكم اليابان لمدة 40 سنة حتى مطلع التسعينيات وعندما نجح تحالف المعارضة آنذاك فى الوصول إلى السلطة سمعنا عن عشرات قضايا الفساد سواء السياسى أو المالى والإدارى بما استتبع انتحار العديد من المسئولين اليابانيين وسجن عدد من الوزراء السابقين.
لماذا؟ لأن المسئول الجديد لا يقبل أن يحاسب على خطايا غيره بل على العكس فإن دوره أن يكشف عن سوء استخدام السلطة من السابقين عليه.
وحتى لا يبدو هذا الطرح غريبا عن البيئة المصرية فقد شهدت مصر مؤخرا مثالا مهما فى دلالته، وحتى وإن لم يكن مهما فى مضمونه، حيث نقلت صحيفة الأهرام أن رئيسا جديدا للهيئة العامة للخدمات البيطرية تولى مسئولية إدارة الهيئة، فقام بحصر الحيوانات الموجودة بالحديقة، وتبين نفوق 720 نوعا من الحيوانات بحديقة الحيوان فى الجيزة خلال العامين الماضيين فقط وقيمة هذه الحيوانات نحو ثمانية ملايين جنيه، فأبلغ النيابة الإدارية للتحقيق فى أسباب اختفاء هذه الحيوانات. فالجديد لا يريد أن يتحمل مسئولية وأخطاء السابقين عليه.
وهو ما لم يكن بعيدا عن تصريح مكتب النائب العام فى جنوب إفريقيا حين أعلن أن الرئيس الجديد لجنوب إفريقيا سيظل يخضع للتحقيق فى قضايا فساد سابقة حتى بعد أن يصبح رئيسا للدولة، فرئاسته للدولة لا تعفيه من الخضوع للرقابة والمساءلة والمحاكمة عما اقترفه قبل وصوله للمنصب الرفيع.
لكن هذا المستوى من محاربة الفساد يقتضى تقوية المؤسسات واحترام قواعدها، كل قواعدها، كل الوقت. وهو جزء أصيل مما فقدته مصر بحكم سيطرة تحالف السلطة والثروة والإكراه القائم حاليا فى مصر.
2 ــ إضعاف المؤسسات لصالح تحالف السلطة والثروة والإكراه: يستخدم مفهوم النخبة الحاكمة لوصف تحالف يجمع بين الساسة (أى كبار رجال السلطتين التنفيذية والتشريعية) والثروة (أى معظم أثرياء المجتمع) والإكراه (أى قيادات الشرطة والجيش).
وهو تحالف إما يأخذ شكل «شلة» كما يقول أحد علماء السياسة الأمريكان المرموقين فى وصف من يحكمون مصر، ويقصد بذلك تلك المجموعة من المتنفذين الذين يتحالفون ويتزاوجون فيما بينهم بحيث تعيد إنتاج نفسها وفقا لبناء غير رسمى للسلطة يكون فيه كارت التوصية أو مكالمة التليفون أهم من الإطار الرسمى القائم على قواعد محكمة تساوى بين الجميع وفقا لإجراءات معلنة ومعروفة سلفا، أو يأخذ شكلا مؤسسيا دستوريا يتضمن تعدد مراكز صنع القرار داخل الدولة ورقابة أجهزتها بعضها على بعض بما يكشف جوانب القصور فى القرارات ويعيد توجيه أولويات الحكومة بما يخدم المجتمع.
وتتطلب مثل هذه الدرجة من المؤسسية الدستورية ألا تكون السلطة التشريعية أداة تصديق أوتوماتيكى على قرارات السلطة التشريعية فضلا عن وجود إعلام مستقل وقضاء نزيه ومجتمع مدنى قوى، ومراكز أبحاث ودراسات متخصصة، وهى كلها من خصائص الديمقراطيات الراسخة.
ولنتذكر مثالين أصبحا كلاسيكيين فى أدبيات النظم السياسية المقارنة، الأول يأتى من باكستان والآخر من الولايات المتحدة، ومع الأسف تبدو فيه مصر أقرب إلى النموذج الباكستانى. فقد قرر تحالف السلطة والثروة والإكراه فى باكستان أن يستمر الجنرال مشرف فى السلطة بغض النظر عن أية قيود دستورية وسياسية قد ترد على المنصب. وعليه فقد عزل الرئيس مشرف رئيس المحكمة الدستورية الذى التزم بحكم الدستور واشترط أن يترك مشرف رئاسة الجيش قبل أن يخوض الانتخابات، بل وقمع المظاهرات التى خرجت مطالبة بعودة رئيس المحكمة المخلوع، بما ترتب على ذلك من عنف اجتاح البلاد وردة ديمقراطية حقيقية.
أما المثال الثانى، فقد ارتبط بجدل الانتخابات الأمريكية فى عام 2000 حيث فاز آل جور بأغلبية الأصوات العددية لكنه وفقا للدستور الأمريكى فإن توزيع الأصوات بين الولايات هو الفيصل فى الفائز فى الانتخابات. ولأن تقليد تداول السلطة فى الولايات المتحدة مستقر منذ أن قرر الرئيس الأول جورج واشنطن ألا يترشح لمنصب رئيس الجمهورية أكثر من مرتين، فظلت باقية فى عقبه، فإن هذا التقليد قد رسخ فى أذهان الأمريكيين احترام مؤسسات الدولة حتى وإن اختلفوا مع توجهها.
وعليه فقد وقف مؤيدو آل جور على أحد جانبى الشارع ووقف أنصار جورج بوش على الجانب الآخر ينتظرون جميعا حكم المحكمة الدستورية فى فلوريدا ثم فى المحكمة العليا فى العاصمة واشنطن دون طلقة رصاص واحدة ويعلن المرشحان المتنافسان أنهما سيحترمان حكم المحكمة أيا كان... ومن هنا كانت المؤسسة أقوى من الفرد لأن الفرد له دور وله مدة أما المؤسسة فلها وظيفة ولها ديمومة.
إذن هناك درسان مستفادان فى ختام هذا المقال.
أولا: من يرد خيرا بهذا البلد فإن عليه أن يعلم أن تداول المناصب يتيح فرصة للمراجعة والمحاسبة والتخلص من غير الأكفاء والفاسدين وهى من خصائص الحكم الرشيد التى تسعى إليها الدول الناهضة قولا وفعلا، لأن التداول السلمى للسلطة يمثل فرصة مهمة لتجديد أشخاص جهاز الدولة ولإضعاف سيطرة شخص أو مجموعة أشخاص على أجهزتها وبما يتيح الفرصة لأفكار جديدة وبدائل تعبر عن مصالح قطاعات لم تكن ممثلة فى ظل الحكومات السابقة.
ثانيا: أشك كثيرا فى جدية من يتحدث عن تحول ديمقراطى حقيقى فى مصر تحت إدارة الحزب الوطنى لأن الديمقراطية الحقيقية ستعنى ضمنا زيادة احتمالات التداول السلمى للسلطة وهو ما يعنى فتح ملفات الإهمال والفساد والتخلف التى تعانيها مصر. ومع ذلك يظل الجهاد الأكبر هو أن يخرج المواطن المصرى من غيبوبته وأن يشارك فى الحياة السياسية لأن «من يعزف عن المشاركة فى الحياة السياسية، فسيعاقب بأن يحكم بمن هم دونه ومن لا يراعون مصالحه» كما قال أفلاطون منذ أكثر من 2500 سنة.
لهذه الأسباب، أشكر الرئيس مبارك على ما قدم لمصر وأطالبه بأن يعطى لمصر حقها الطبيعى فى أن تشهد تداولا سلميا للسلطة، هذا ما تتمناه نفسى وإن كان عقلى يقول لى إن الرئيس سيظل رئيسا.