الشهيق الأخير للدولفين

أحمد عطية
أحمد عطية

آخر تحديث: الإثنين 7 مارس 2016 - 12:53 ص بتوقيت القاهرة

انقبض قلبي حين رأيت الإعلان المعلق على طريق المحور، الذي يحمل دعاية لكومباند حديث: "في ... بالشيخ زايد، الدولفين هو جارك الجديد"، وبجانب الكلمات يقبع وجه دولفين مبتسم.

كنت قد قرأت صباح ذات اليوم خبرا كابوسيا عن مجموعة من السياح الهمج على شواطئ بوينس آيرس الأرجنتينة، شاهدوا دولفين سيئ الحظ يعوم قريبا من الشاطئ، فأخرجوه من الماء، وتقاذفوه بينهم ليصوروه "سيلفي"، حتى مات من الجفاف. أحاول أن أنسى الخبر الذي عكر صباحي رغم حدوثه في النصف الآخر من الكرة الأرضية، فإذا بي أمام مأساة جديدة على قرب دقائق من بيتي.

أخرج هاتفي، واتصل بالشركة المعلنة. يخبرني أحد عملاء التسويق عن أسعار الشقق والفيلات، وأن من ضمن تصميم المدينة منتجع صحي، وحدائق خضراء، وحمامات سباحة، وحديقة ألعاب مائية ستنظم عرضا للدلافين أسبوعيا.

***

بين كل كائنات الأرض، تتشارك الدلافين مع بني آدم والقردة العليا بقدرة التعرف على انعكاس صورتهم بالمرآة، وهي خاصية شديدة التفرد تكشف عن مستوى نادر من الوعي بالذات. ترتبط مراكز حاستي السمع والبصر في أمخاخ الدلافين بشكل عجيب، يسمح لهم بـ"رؤية" الصوت و"سماع" الصور.. لا أحد غيرهم يعرف المعنى الحقيقي لهذا الإحساس بالضبط.

تبتكر الدلافين ألعابها الخاصة، وتتوارثها جيل بعد جيل. بعض مجموعات الدولفين تحب "المساكة"، فينطلق واحد منهم بسرعة ويطارده الآخرون، ثم يتبادلون الأدوار، في حين تفضل مجموعات أخرى اللهو بفقاعات الهواء، أو تقاذف الصدف البحري، أو حتى إشراك السلاحف والحيتان في ألعاب متعددة الفصائل.

كيف صار ذلك الذكاء المبهر نكبة للدلافين، وسببا في استعبادها لتسلية البشر؟

تبدأ الحكاية منذ ٥٠ سنة تقريبا.

أوائل الستينات، كان هناك عدد قليل جدا من مدربي السيرك الذين يستخدمون الدلافين في أداء استعراضات بهلوانية، إلا أنه كان عصر تزايد الاهتمام بالغوص في أعماق عقولهم. كانت بعض المراكز البحثية حول العالم قد تنبهت لمزايا الدولفين الفريدة، وكرست جهودها لدراسة سلوكه، في حين خصص الجيش الأمريكي ميزانية ضخمة لإنشاء "برنامج سلاح البحرية للحيوانات الثديية المائية"، الذي كان يدرس قدرات الدلافين بصفة خاصة، ويدربها على نقل المعدات الخفيفة، والتجسس، وغيرها من المهمات العسكرية غير القتالية.

عام ١٩٦٣، انعكس ذلك الاهتمام المتزايد بالدلافين على السينما، حين بدأ عرض فيلم أمريكي يسمى فليبر "Flipper"، عن علاقة صداقة تنشأ بين طفل ودولفين جريح. نجاح الفيلم أغرى منتجيه بعمل مسلسل يحمل نفس الاسم بعدها بعام. عندها، كان الشاب "ريك أوباري" مسؤولا عن اصطياد وتدريب ٥ من إناث الدلافين اللائي تناوبن علي "تمثيل" دور فليبر، ومين بينهم كانت الدولفين "كاثي" هي الأكثر أداء لهذا الدور على الشاشة.

نجح المسلسل بشكل ساحق. تسابق الأطفال على شراء منتجات تحمل اسم مسلسلهم المفضل. لكن وراء قناع "فليبر" السعيد، كانت الدولفين "كاثي" تعاني من آثار الإرهاق والمرض والتعب والاكتئاب، بعد أن اشتاقت للحرية وملت الأسوار والتدريبات القاسية.

في فيلم "الخليج" The Cove، الحائز على أوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل، يروي المدرب ريك أوباري المشهد الأخير في حياتها:

"ذات يوم جائت إلي كاثي، ووقفت بين يدي لفترة.. أخذت شهيقا طويلا، بعدها نظرت إلى عيني. ولم تأخذ نفسا بعدها".

على عكس البشر، التنفس عند الدلافين فعل إرادي. كل نفس يأخذونه هو قرار (عاقل؟) بالرغبة في الاستمرار على قيد الحياة. هم يملكون القدرة على أن يوقفوا عملية التنفس، لكن هل يعني ذلك قدرتهم على اتخاد قرار الانتحار؟ العلماء يختلفون في الإجابة عن هذا السؤال، لكن أوباري كان مقتنعا أن كاثي أنهت حياتها بإرادتها، بعد فقدانها الأمل في الحصول على حريتها.

توقف أوباري عن تدريب الدلافين وغلبه الإحساس بالذنب، لكن بعد فوات الأوان. كان "فليبر" قد صار اسم الدولفين الأشهر في التاريخ، ووسيلة لترويج صورة خادعة بأن بني جنسها حيوانات محبة لخدمة البشر والحياة تحت طاعتهم. توسعت تجارة عروض الدلافين حتى صارت مليارية الأرباح. صيادو الدلافين ازدادوا نشاطا، وشرعوا في احتجاز المئات كل عام، يدققون في وجوه الدلافين ويختارون منها من تتشابه ملامحه مع "فليبر" ذي الابتسامة الدائمة التي يحبها الجمهور، فيباع لمدربي العروض. أما من لا يتوافق وجهه مع مقاييس جمال "فليبر"، فيُذبح ويصير وجبة سمك رخيصة في بلاد شرق آسيا.

***

بداية التسعينات، يعاد إنتاج مسلسل فليبر بنسخة ملونة تزيد من نشر الهوس بحب مشاهدة الدلافين، وأذاعته القناة الثانية بماسبيرو، ما ساهم في رفع شعبية الدلافين بين المصريين. عام ٢٠٠٣، توافدت الجموع لمدينة الإنتاج الإعلامي، التي بدأت عروضا ترفيهية بست دلافين مستوردة من روسيا.

اشتعلت الثورة في ٢٠١١، في حين كانت ناشطة حقوق الحيوان دينا ذوالفقار تخوص معركة من طراز آخر، محاولة كشف مايجري لدلافين مدينة الإنتاج الإعلامي. أربعة دلافين من أصل ستة اختفوا دون تفسير، وفي الأغلب ماتوا من سوء المعاملة. ليست هذه حالة فريدة، فالإحصائيات تؤكد أن كل سبع أعوام، يموت أكثر من نصف الدلافين التي تعيش في الحبس نتيجة التسمم بالكلورين داخل حمامات السباحة، أو قرح المعدة الناتجة عن الضغط العصبي في التدريب، أو الالتهاب الرئوي، أو حتى من الإصابات والكدمات أثناء العروض.

بقي داخل مدينة الإنتاج الإعلامي دولفينان فقط. ذكر وأنثى. أما الذكر، فكان مصابا بالاكتئاب، يرطم رأسه وأنفه بقاع الحوض، ويعامل الجميع بعدائية شديدة. الجمهور السعيد بمشاهدة خدع الدولفين، لايعرف أنه ينفذها مجبرا، وأن كسر إرادته وإرغامه على الخنوع قد يشمل فترات من التجويع والضرب والصعق بالكهرباء. أما الأنثي، فكان مدربوها يجبرونها على أداء العروض الاستعراضية أثناء حملها، فتدهورت صحتها وماتت بعد الولادة، ثم لحقها زوجها بعد أشهر قليلة.

لم تحظ القصة بالاهتمام الإعلامي الكافي بسبب التوقيت، لكن ذو الفقار استطاعت نقل الدولفين الوليد إلى شرم الشيخ بعد مفاوضات طويلة، وتم إغلاق سلخانة الإنتاج الإعلامي حتى اليوم.

أما عن أوباري، فقد حوله "انتحار" كاثي إلى أشهر ناشط في حقوق الدلافين بالعالم، يسافر من الشرق للغرب محاولا إنقاذ ماينقد إنقاذه، مكفرا عن ذنبه. مر أوباري أثناء رحلاته المكوكية بمصر عام ٢٠١٠، وتعرض لاعتداء من بلطجية في مدينة الغردقة، وأشارت أصابع الاتهام لرجل أعمال مصري كان يستورد الدلافين اليابانية ويحتفظ بهم في حمام السباحة الخاص، استعدادا لاستغلالهم في تقديم عروض ترفيهية.

أما عن البحرية الأمريكية، فقد نجح برنامجها التدريبي واستمر. أثناء غزوها للعراق، كانت الدلافين العسكرية في مقدمة الصفوف، تحيط بالقطع والمدمرات الحربية في الخليج لتنفيد مهام الاستطلاع والكشف عن الألغام. نتيجة لتطور الـ"درونز" أو الآليات المتحكم فيها عن بعد، يسعى الجيش للاستغناء عن الدولفين وتوظيف الروبوت مكانه خلال ٢٠١٧.

بعدها بعامين، في ٢٠١٩، سيبدأ كومباوند الشيخ زايد تسليم وحداته السكنية، ليبدأ معه جحيم الدلافين الجديد.

أما أنا، فمازلت أبحث عن وسيلة أكفر بها عن ذنبي الذي اقترفته منذ ١٢ عاما، حين جلست في مدرجات مدينة الإنتاج الإعلامي، أصفق لمرأى الدولفين الأسير، وألتقط الصور لقفزاته الرشيقة، وأضحك بدلا من أن أبكي.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved