«الشعر وحيد» هكذا تعلن نشرات الأخبار فى أيامنا، تريده كأى طائر مقتول فى خرائب الحرب التى لا تنتهى.
يقول الناشرون: «لا أحد يقرأ الشعر» لا أحد يقترب منه، هو مثل المقاهى المهجورة.. ليس لديها سوى الذكرى، ذهب الرواد إلى العزلة وظل أصحابها يجربون لغاتهم فى فضاء «التواصل الاجتماعى»، إنهم غرباء داهمهم الضجيج ومهمتهم الآن إعادة اختراع العجلة أو ابتكار لغة جديدة تبنى شعريتها فى فضاء المفارقة تراهن على بلاغة القنص التى تسقط غالبًا ضحية لمعادلات جاهزة.
والنتيجة كتابة قصيدة واحدة بمئات التوقيعات.
هذا ما يقوله أعداء الشعر!
أما جمهوره القديم فيريده أليفا ناعما فهو لا يحتمل التجريب يتحصن بنجومه القدامى ويتفادى بهم المغامرة لأنه باحث عن الأمان، والشعر قلق بطبيعته، لا يرضى أبدا بمثل هذا المصير ولا يريد أن يؤدى فقط دور الوردة وينتهى بين صفحات كتاب.
يفضل الشعر التنفس بحرية، يريد رعشة الطائر فى الهواء أكثر من دفء العش.
يفضل أن يعيش غريبًا ويبعث غريبًا كما بدأ من رحم الأساطير، يحب صورته كطفل رجيم بلا عائلة، يستظل بالوحشة ولا يعرف غيرها.
والغريب أن شبكة الإنترنت التى أدت فى الماضى دورها فى «علاج المسافة» لم تعد قادرة على أن تكون حاضنة للشعر أو ملجأ لمقاومة الغياب، كما أنها لم تعد رئة صالحة لاستنشاق الهواء الجديد.
ومثلما انتهى قبل سنوات موقع قصيدة النثر الذى أسسه الشاعر المصرى عماد فؤاد فى مستقره الهولندى ميتا بالسكتة القلبية انتهى هذا الأسبوع دور موقع «جهة الشعر» الذى أسسه فى العام 1996 الشاعر البحرينى الكبير قاسم حداد الذى وجه قبل يومين رسالة قصيرة إلى الأصدقاء يبلغهم بتوقف الموقع الذى تكفل طوال سنوات بصيانة القصيدة مستندًا على ذائقة رفيعة تفاعلت مع أجيال الكتابة العربية على تنوعها انحيازا للموهبة وليس لأى اعتبارات أخرى.
بعد 22 عامًا من حماية الشعر لم يعد قاسم قادرًا على الاستمرار، وصل صاحب «ورشة الأمل» إلى محطة اليأس ورفض أن يتحول لزهرة وحيدة مهتمتها أن تصنع الربيع فى ظل ثقافة وقعت مع الخريف عقد إذعان.
كتب قاسم فى رسالته القصيرة: «الأصدقاء الأعزاء.. سوف يتوقف موقع «جهة الشعر» عن البث لأسباب تتعلق بعدم توفر الدعم المالى، ونود هنا أن نتوجه بالشكر لكل من وفر الدعم لها على مدى العشرينسنة السابقة، والاعتذار لأصدقاء «جهة الشعر» الذين بمشاركتهمالنشر فى الموقع، أسهموا فعلا فى الإنجاز الذى تحقق طوال سنواتعمل الموقع منذ انطلاقه».
بهذا التوقف يخسر الشعراء أرضا جديدة ويفقد الشعر اليد التى تفرغت لرعايته وتبقى المفارقة التى تؤكد فداحة الغياب أن محرر الموقع ينتمى لمنطقة الخليج حيث الإنفاق على الثقافة بلا حدود!.
لكن أى ثقافة تلك التى يدفعون لأجل استمرارها؟
إنها ثقافة «الاستعراض» التى تحتفى بالركود وتمجد الضوء وتختزل مهتمتها فى مشهد الافتتاح لكنها فى غمرة الزحام لا تؤسس لشىء يمكث فى الأرض.
إنها ثقافة واجهات تخفى عطبها وراء الفخامة وتنزعج من التفشف لأنه يكشف فتنتها الكاذبة.
أقول لقاسم حداد: «ما أجملك أيها الذئب جائع وتتعفف عن الجثث».
هكذا كتبت وعشت وينبغى أن تبقى كما أنت محتميا بـ«فتنة السؤال»، أما الشعر فسيبقى باحثا كما كان عن جهة الشعر وجهة القلب.