عملية التشريع واتخاذ القرار
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 6 مارس 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
أثار اقتراب تطبيق قانون تسجيل العقارات نقاشات حامية وواسعة النطاق فى المجتمع حتى تدخلت السلطتان التنفيذية والتشريعية فتأجل العمل به لسنتين قادمتين. عندما لاحظ حزب الأغلبية الاحتجاجات التى لا تهدأ على القانون تحرك لتعديل نصوص فيه ولكن التأجيل لم يعتمده مجلس النواب إلا بعد أن قرره رئيس الجمهورية. كان المأمول هو أن يبادر مجلس النواب، صاحب السلطة التشريعية، بهذا الحل، الأكثر استجابةً لاحتجاجات المجتمع وإن كان مؤقتا.
هذا المقال ليس عن قانون تسجيل العقارات ذاته فليس لكاتبه علم كاف بموضوعه. هو عما تثيره احتجاجات المجتمع على القانون وتأجيل البرلمان لدخوله حيز النفاذ من ملاحظات على عملية التشريع واتخاذ القرار فى مصر فى الفترة الأخيرة. وهذا القانون ليس وحده فى ذلك. منذ عدة شهور أثار بدء تطبيق قانون التصالح فى مخالفات البناء احتجاجات شبيهة حتى اضطرت الحكومة لأن تتصالح هى نفسها مع المجتمع بالعدول عن ممارسات نص عليها هذا القانون وبإدخال تسهيلات على تطبيق بعض أحكامه. شىء شبيه وإن لم يتعلق بقوانين حدث بشأن مشروعين كان يُعتَزَم تنفيذهما فى مدينة القاهرة ألا وهما المشروع السياحى المسمى «بعين القاهرة» فى الجزيرة الشمالية لنيل العاصمة والثانى هو الجسر الذى كان بناؤه وشيكا بالقرب من كنيسة البازيليك بحى مصر الجديدة. فى هاتين الحالتين الأخيرتين عندما انتشر خبر المشروعين ثارت الاحتجاجات والغضب وارتفعت الأصوات حتى شبه تلاشى الحديث عنهما وتوقف العمل فيهما وإن لم يتضح بعد إن كان العدول عن المشروعين نهائيا أم مؤقتا.
***
أول الملاحظات هو أن موضوع القانونين أكثر أهميةً من موضوع المشروعين بدون أن يعنى ذلك تهاونا بهذين الأخيرين. السبب هو أن القانون فى أى دولة حديثة هو أعلى أداة لصنع السياسات بعد الدستور. لا يصح أن يعتمد مجلس تشريعى قانونا ليعدّل هو نفسه فيه بعد شهور معدودة. فى هذا استهانة بعملية التشريع وعدم إيلاء الاحترام الواجب لها وهو احترام يُحَتِمُه أن التشريع يُعتَمَدُ نيابةً عن الشعب. فضلا عن ذلك فإن عدول البرلمان عن قانون اعتمده قبلها بقليل قد يقوض من مصداقيته لدى المواطنين وهو آخر ما يريده أى نظام سياسى لأنه يؤدى إلى الانتقاص من نفس شرعيته. المفترض فى عملية التشريع، وحسب موضوع كل قانون وأهميته، هو أن تتواصل الأحزاب مع قواعدها، ومع من يصوتون لها، وحتى مع مجرد من تتصور أنها تمثلهم، ومع منظمات المجتمع المدنى. هذا هو المنهج الذى يشترك فى هيكلة ما يسمى ونسمع كثيرا عنه وهو الحوار المجتمعى. إن فعلت الأحزاب ذلك ثم عبَّرَت عن المواقف والآراء التى تجّمعها فى البرلمان وفى وسائط الاتصال، فإننا نكون بصدد حوار مجتمعى حقيقى، وفى داخله مناقشات برلمانية، تؤدى إلى اعتماد قوانين موثوق فيها تعيش لسنوات حتى تتغير البيئات التى تطبق فيها فتحين أوقات تعديلها. مثل هذا الحوار المجتمعى، والمناقشات البرلمانية من داخله، طويل يستغرق وقتا وقد يكون مضنيا، ولكنه وقت ينفق فى محله. أولا هو وقت يعفى من الوقت الذى تستغرقه الاحتجاجات والتعديلات بعد اعتماد القانون عندما يحين وقت تطبيقه، ثم هو يؤدى إلى تعزيز مصداقية السلطة التشريعية وشرعية النظام السياسى برمته.
***
عملية التشريع لا بدَّ أن تؤخذ بالجدية التى تستحقها ولا يكفى فى حالة قانون تسجيل العقارات القول بأن البرلمان الذى اعتمده غير ذلك الذى أوقف العمل به، أو أن يغامر أحدٌ بالقول بأن الولايات المتحدة نفسها يرجع فيها رئيس عن الأوامر التنفيذية لسلفه، كما فعل الرئيسان ترامب وبايدن مع ما أصدره سلف كل منهما. فى الحالة الأمريكية كل من الرئيسين مختلف عن سلفه سياسيا وأيديولوجيا، ثم إن الأمر يتعلق بقرارات صادرة عن السلطة التنفيذية وليس بقوانين. بل إن مجلس الشيوخ الأمريكى فشل فى إلغاء قانون صدر فى عهد الرئيس أوباما هو قانون الرعاية الصحية على الرغم من أن الرئيس ترامب حض على هذا الإلغاء الذى كان فى صلب برنامجه. أما فى حالة مصر فالحكومة هى نفسها والتكوين السياسى للبرلمانين هو ذاته بل إن غير المؤيدين للحكومة فى البرلمان الحالى أقل منهم فى البرلمان السابق بصرف النظر عن التشكيل الذى يمرر للحكومة رغباتها.
غير أن مجلس النواب ليس المسئول وحده عما بدا أنه تخبط تشريعى لا يليق. الحكومة مسئولة أيضا. فى كل الدول، حتى فى أعرق من تأخذ بنظام الديمقراطية التمثيلية بينها، الحكومات هى التى تتقدم بأغلب مشروعات القوانين، والنسبة الأكبر والساحقة من القوانين المعتمدة تقدمها الحكومات. لذلك فإن على الحكومات مسئولية أن تدرس ليس فقط الأهداف التى تبغى تحقيقها من وراء القوانين، وإنما كذلك قدرة الدولة على إنفاذها، والأهم الظروف العامة التى تتقدم بمشروعات القوانين فى أثنائها. دعك من قانون التصالح فى مخالفات البناء لضيق المساحة ولنتناول فى بضع كلمات الظروف التى تقدمت فى ظلها الحكومة بمشروع تعديل قانون التسجيل العقارى وهى مرتاحة ومطمئنة إلى اعتماده وهو ما لم يخب ظنها فيه. الحكومة تقدمت بهذا المشروع فى عزّ أزمة الوباء العالمى وآثاره على الاقتصاد الوطنى وما عاناه من انهيار إيرادات قطاع السياحة وقناة السويس وتراجع الطلب على السلع المصرية نتيجة لانكماش الاقتصاد العالمى. كل هذا انعكس على دخول المواطنين وعلى مستويات معيشتهم، هم الذين كانوا قد تأثروا أصلا بالرسوم المتتالية المفروضة عليهم، وبتخفيض الدعم للسلع الغذائية، وبارتفاع أسعار الطاقة، وبكل تبعات انخفاض سعر صرف الجنيه المصرى وآثار الاتفاق مع صندوق النقد الدولى فى سنة 2016. تقدمت الحكومة بمشروع التعديل وعلى الرغم من الصخب الذى أثاره فى حين مناقشته فى الصيف الماضى أصرّت عليه فى الوقت الذى كانت حكومات فى دول أخرى تصمم برامج لتنشيط اقتصاداتها بما فى ذلك عن طريق تخفيض ما تستقطعه من دخول مواطنيها وما تضيفه إليها من موارد لينفقها هؤلاء المواطنون فينشطون بها اقتصادات دولهم. فى الولايات المتحدة يبلغ الإنفاق المعلن عنه مؤخرا لتنشيط الاقتصاد 1,9 تريليون دولار تمثل حوالى 9 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، وفى البرازيل يبلغ الإنفاق 72 بليون دولار تمثل 4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، وفى تايلاند فى سنة 2020 بلغ الإنفاق 30 بليون دولار تمثل 6 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى وفى نفس تايلاند تقرر فى سنة 2021 توزيع 7 بليونات دولار تمثل 1,3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى على الأفراد والمنشآت، وفى جنوب إفريقيا أعلن فى إبريل سنة 2020 عن إنفاق على تنشيط الاقتصاد يبلغ 26 بليون دولار تمثل 10 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. هل من الحكمة فى ظل الظروف المعيشية الداخلية وعلى ضوء السلوك الاقتصادى لحكومات العالم فى مشارق الأرض ومغاربها أن تزيد الحكومة من الأعباء الملقاة على المواطنين وإن غلفت ذلك بحديث لا غبار عليه، إن نظر إليه وحده؟ عن حصر الثروة العقارية وصون حقوق ملاكها؟
***
أما عن مشروع العجلة وجسر البازيليك، فالقرارات أولا لا بدّ أن تُدرس منافعها على الناس والمجتمعات المحلية وتأثيراتها السلبية عليهم، وهى ثانيا لا تتخذ بمعزل عن المتأثرين بها. تجاهل هذا وذاك والتسرع فى اتخاذ القرار لا يعنى أنه سينفذ بالضرورة وهو بذلك يخصم من مصداقية من يتخذونه ومن نفس عملية اتخاذ القرار. لا يوجد أى نظام سياسى يريد ذلك.
الرجوع عن تطبيق قانون التسجيل العقارى والرجوع عن تنفيذ مشروعى العجلة وجسر البازيليك هو رجوع إلى الحق، والرجوع إلى الحق فضيلة.
غير أن الفضيلة الحقة والكبرى ليست فى تكرار الرجوع. هى فى المبادرة من الآن فصاعدا بانتهاج عمليات صحية غير متعجلة للتشريع ولاتخاذ القرار. عمليات تبدأ بالاستماع إلى آراء المواطنين والمواطنات، وتحلل الظروف التى يعيشون فى ظلها، وتحقق لهم مصالحهم.
عمليات يقوم عليها من يقدر المواطنين والمواطنات حق قدرهم من أول يوم وليس بعده.
ولتكن البداية بمشروع قانون الأحوال الشخصية الذى ما كاد يصل إلى الناس حتى أثار الانزعاج لدى النساء ومنظماتهن، ولدى كثير من الرجال، المتطلعين جميعا إلى قانون واقعى يصون للأسرة مكانتها، يأخذ فى اعتباره الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتقنية للعقد الثالث من القرن الحادى والعشرين، ويحترم ما نص عليه الدستور من المساواة بين الرجال والنساء.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة