هل ستعزز خصخصة الخدمات العامة حقوق الإنسان؟


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: الإثنين 6 أبريل 2009 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

 ذات صباح بارد بإحدى المدن الأوروبية الهادئة خرج الترام المسرع عن مساره وانطلق كالثور الهائج ليدهس مواطنا مترجلا قبل أن يرتطم ببناية تجارية محطما واجهاتها الزجاجية. كان القدر رحيما بسائق الترام فلم تصبه إلا رضوض طفيفة، وبعد إسعافات سريعة وقف ليعلن أمام أجهزة التحقيق ووسائل الإعلام أن الترام كان سليما من الناحية الفنية وأنه الوحيد المتسبب فى الحادث إذ غلبه النعاس أثناء القيادة فكان ما كان.

عندما يقع مثل هذا الحادث فى مدينة عربية تسارع وسائل الإعلام إلى الهجوم على السائق واتهامه بالتهور والرعونة والاستهانة بأرواح الأبرياء، تم ما تلبث أن تشير إلى ما نما إلى علمها من مصادر موثوقة بجهات التحقيق من أن السائق إما مريض نفسى له باع فى ارتياد المصحات ذات الصلة، أو مدمن عتيد على المخدرات وأنه كان تحت تأثيرها أثناء الحادث.. هكذا تنتهى القضية وسرعان ما يتوقف الناس عن متابعتها.. ويتكرر غرس ذات الدرس فى كل نفس.. المسئولية عن كل المصائب الوطنية صغرت أم كبرت تبقى من قبل ومن بعد مسألة فردية.

على أن ما حدث فى تلك البلدة الأوروبية كان جد مختلف، فلم ينشغل الإعلام بتوجيه الاتهام ولا حتى بالحصول على معلومات جديدة من المحققين، بل راحت الصحف والبرامج الإذاعية والتليفزيونية تطرح على الرأى العام والمسئولين أسئلة من قبيل: لماذا غفا السائق؟ هل زيادة عدد ساعات عمله اليومية هى السبب؟ هل ينبغى توظيف المزيد من السائقين بما يتيح تقليل مدة الوردية لكل سائق؟ هل قضى ليلته مؤرقا بسبب مرض ألمَّ به أو هموم شغلت باله أو ضغوط مالية لا يستطيع مواجهتها؟ ألا يتطلب الأمر إدخال تطوير على أجور السائقين وظروف عملهم وبرامج الرعاية الصحية والنفسية التى نوفرها لهم قبل أن نطالبهم بالحفاظ على أرواحنا أثناء ممارسة عملهم؟

الفارق بين طريقة النظر إلى الحادث عربيا وأوروبيا لا يتعلق فى المقام الأول بآداب أو مناهج العمل الإعلامى، بل هو نتاج موقف سلطوى تتبعه ثقافة مجتمعية مغايرة لدى كل فريق.

ذكرنى بهذه القصة المقال القيم الذى نشرته «الشروق» للدكتور زياد بهاء الدين فى السابع من مارس الماضى والذى تعرض فيه للجدل المثار حول مشروع قانون زيادة الرسوم القضائية منتهيا إلى مقولة خماسية الأركان لا يدانى شيوعها إلا خطورتها ألا وهى:
(1) أن حماية حقوق الفقراء فى اللجوء للتقاضى والحصول على الحماية القضائية تعد حقا أساسيا من حقوق الإنسان بل هى أسمى أشكال المواطنة.
(2) إلا أن ذلك يجب ألا يعنى تغليب عنصر «إتاحة» خدمة العدالة على بعد آخر أكثر أهمية هو «نوعية وجودة» تلك الخدمة.
(3) أن الارتقاء بجودة تلك الخدمة يتطلب ممن يتلقاها الاستعداد لتحمل تكلفة أكبر للحصول عليها.
(4) أن ما ينطبق على العدالة بوصفها خدمة عامة ينطبق على غيرها من الخدمات كالتعليم والصحة.
(5) أن استمراء دغدغة شعور الفقراء بالانحياز للإتاحة على حساب الجودة سيؤدى إلى التضحية بحقوقهم بدلا من حمايتها.

المدهش أن هذه المقولة لا تصمد أمام نذر يسير من المنطق، فإذا كانت جودة الخدمة تتناسب طرديا مع تكلفتها، وإذا كانت الدولة قد أباحت لنفسها أن تتحلل من تحمل تلك التكلفة وألقتها على عاتق من يطلبها، فإن النتيجة الحتمية هى أن الخدمة الجيدة سيحصل عليها فقط القادرون على سداد تكلفتها المتنامية، فى حين يبقى للفقراء واحد من خيارين: إما الحرمان من الخدمة (مثل التغاضى مرغما عن اللجوء للقضاء لارتفاع تكلفته مع ما يعنيه ذلك من ضياع حقوق الفقراء) أو الاكتفاء بالحصول على الخدمة غير الجيدة (مثل الموت فى واحد من أقسام العلاج المجانى بالمستشفيات الحكومية لتدنى مستوى الخدمة الطبية)، إذا كان ذلك كذلك فعن أى حقوق أساسية للإنسان يتحدث هؤلاء؟

سيقولون إن القادر عندما يتحمل التكلفة المرتفعة للخدمة الجيدة التى يحصل عليها يساعد (بطرق مباشرة وغير مباشرة) الدولة على الارتقاء بمستوى الخدمات التى تقدمها للفقراء دون تحميلهم تكلفة هذا الارتقاء، والحاصل أن المرء لا يمكن أن يجد أبلغ من هذا الحديث كتعريف نموذجى للدجل. فمتابعة بسيطة لأى كلية من الكليات التى زاوجت بين برامج التعليم مدفوعة الثمن والبرامج شبه المجانية تكشف بجلاء ما تكشفه متابعة أى مستشفى يزاوج بين ما يسمى بالعلاج الاقتصادى وما يطلق عليه العلاج الاستثمارى.. من يدفع أكثر يحصل على خدمة أفضل نسبيا، ومن لا يستطيع أن يدفع عليه القبول بالخدمة متدنية المستوى أو الحرمان منها كليا.

سيقولون إن عيوب التطبيق لا تنال من صحة المقولة، فعجز الدولة فى مصر عن إدارة الخدمات العامة على نحو يرتقى بمستواها من خلال تحميل القادرين تكلفة رفع مستوى الخدمة للأغنياء والفقراء على حد سواء، لا يعنى ولا ينبغى أن يسوغ الهرولة خلف هدف إتاحة الخدمات دون الالتفات إلى جودتها، وذلك ضرب آخر من ضروب الدجل، ففساد المقولة خماسية الأركان التى أشرنا إليها يتأسس على افتراضها وجود تناقض وجودى بين «الإتاحة» و«الجودة» واعتبارها هذا التناقض سنّة كونية أزلية لا يعتريها التغير، ومن ثم افتراض ضرورة الاختيار بين «إتاحة تضحى بالجودة» أو «جودة تتبعها إتاحة». عندئذ يكون الخيار الأرشد اقتصاديا والأرقى أخلاقيا هو التركيز على مقولة الجودة على أمل أن تؤدى فى وقت ما إلى الإتاحة. هذا التناقض المزعوم لا يعدو أن يكون تجليا من تجليات «نظرية الثمن» فى الفكر الاقتصادى الرأسمالى، ومقولات تلك النظرية وتطبيقها على الخدمات العامة ليست من «طبائع الأشياء»، بل هى مما يقبل الأخذ والرد والأهم أنها مما يقبل النقد والنقض.

سيقولون إنه إذا كانت هناك خدمة جيدة (مدرسة خاصة تقدم تعليما متميزا) وأخرى أقل جودة (مدرسة حكومية يتخرج منها طلابها كما دخلوها) فإن المعيار «الطبيعى» الوحيد لتحديد من يحصل على الخدمة الجيدة هو القدرة على تحمل تكلفتها المرتفعة وأن أقصى ما تستطيعه الدولة فى هذا الإطار هو أن تتحمل تكلفة حصول المتفوقين من غير القادرين على تلك الخدمة (وهم بطبيعة الحال قلة قليلة)، وهذا نموذج ثالث للدجل، ففى واحدة من الدول الأوروبية (وهى بالمناسبة تتيح تعليما وتأمينا صحيا مجانيا لجميع مواطنيها) تقوم المسارح ودور الأوبرا ببيع التذاكر لجميع المقاعد بنفس السعر، وعندما تسأل عن كيفية المساواة بين المقاعد التى تتيح رؤية أوضح وتلك التى لا تكاد تتيح لصاحبها أى مجال للرؤية، يقال لك إن المقاعد الأكثر تميزا يحظى بها الأسبق فى الحجز، وعندما تطلب تفسيرا تكون الإجابة: أن الاستمتاع بالموسيقى يعد خدمة عامة ينبغى أولا إتاحتها بأسعار رمزية ويتعين ثانيا أن تكون الأفضلية فى الحصول على أقصى استمتاع بها لمن يستحق لا لمن يملك.

بقى أن أشير إلى أن الدولة الأوروبية التى تنتهج هذه السياسة فى بيع تذاكر المسرح والأوبرا هى ذات الدولة التى أبت وسائل إعلامها أن تحمّل سائق الترام وحده مسئولية دهس مواطن برئ، وأعلنت بوضوح أن دم هذا المواطن معلق برقبة الدولة التى نامت قبل أن ينام السائق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved