الانتخابات واستعادة كرامة وطن: التجربة البريطانية
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 6 مايو 2010 - 10:09 ص
بتوقيت القاهرة
تابعت بفضول حملة الانتخابات البريطانية، وأنتظر مساء اليوم نتائجها بفضول أشد. أعرف أننى لست المصرى الوحيد «المشتاق» إلى حملة انتخابية تتصادم فيها الآراء والعقائد، فبمثل هذه الصدمات يزداد الشعب فهما لمشاكله وتفهما لبدائل حلها. «مشتاق» أيضا لحملة انتخابية أتعرف من خلالها على المرشحين وأقرر بنفسى إن كان بينهم من يستحق شرف أن يخدم مصالحنا ويرعى حرمة الأمة ويستعيد لها كرامتها أو جزءا منها.
أما النتائج، فأستطيع أن أعترف بعد أسابيع عديدة من متابعة الحملة الانتخابية فى بريطانيا، أننى وجدت صعوبة كبيرة فى التنبؤ بها، أعترف أن ظنى، حتى لحظة كتابة هذه السطور، مازال يتراوح بين فوز للمحافظين، وفوز معتدل للعمال، ومفاجأة فوز للديمقراطيين الليبراليين. هكذا ينشأ «الاشتياق» إلى حالة متحضرة فى السياسة والحكم لدى إنسان محروم منها.
كانت الحملة الانتخابية فى بريطانيا، بالإضافة إلى خصوبة أجوائها والإثارة التى ولدتها فى الشارع البريطانى، كاشفة لحال الأمة البريطانية. كانت مثل تقرير دورى تقدمه الطبقة الحاكمة عن الطيب والسيئ فيما قدمته للشعب، وكانت مثل بيان للأمة تتعهد فيه هذه الطبقة بالتزامات تصحح بها أخطاءها وتصلح أوجه قصورها وتستعيد للأمة ما فقدته من عز وعزة لأسباب خارجة عن إرادة الحكام أو بإرادتهم وسوء تصرفهم.
كانت الحملة فرصة أتاحت للناخبين أن يعرفوا عن كثب حالة الاقتصاد والمجتمع والجريمة والفساد، وأن يعرفوا ويعترفوا بأن بريطانيا متعددة الألوان والعقائد والأجناس غير بريطانيا ذات اللون الواحد. ولكنهم عرفوا أيضا أن الطبقة التى حكمت عبر عقود، بل قرون، مازالت قائمة وقوية وتحكم ولكن لا تتحكم. فالثلاثة المتنافسون على منصب رئيس الوزراء، أعلى سلطة تنفيذية فى المملكة المتحدة، من خريجى مدارس وجامعات الطبقة العليا، وواحد فيهم على الأقل سليل عائلة ألمانية من العائلات المالكة، وجميعهم بدون استثناء ملتزمون حقوق الطبقة العاملة ومصالحها ويتنافسون على الالتزام بمبادئ الرفاه الاجتماعية ونظمها.
على الرغم من هيمنة الأرقام على خطاب الحملة الانتخابية وأهمية المسائل الداخلية وبخاصة ما يتعلق منها بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية، كان «الحاضر ــ الغائب» فى الخطاب منذ اليوم الأول للحملة الانتخابية هو انحسار مكانة بريطانيا الدولية وسبل إيقافه.
كان هذا الموضوع غائبا بمعنى أن المرشحين الثلاثة الكبار ومختلف المرشحين لمقاعد مجلس العموم فى المدن الصغيرة وأحياء لندن الكبرى تجنبوا الخوض فيه إما لحساسيته الشديدة بسبب اقترابه من مسألة القتلى البريطانيين فى الحرب الدائرة فى أفغانستان، أو بسبب تعقيداته، وكان حاضرا فى الوقت نفسه، لأنه كالشبح الذى خيم على أجواء الحملة الانتخابية منذ يومها الأول.
كان حاضرا فى ذهن المتحدث عن العجز فى الميزانية وتقليص الإنفاق الحكومى وآثار الأزمة المالية فى اليونان والضائقة التى تتعرض لها العملة الأوروبية وخطر ما يسمى بالإرهاب.
وكان حاضرا لأن المراقبين من الخارج، وأنا واحد منهم، يهتمون به ضمن اهتمامهم الأوسع بالتطورات الجارية على مستوى القمة الدولية بشكل عام أو لأنهم، وأنا منهم كذلك، منشغلون بالآثار الجانبية المترتبة على انحسار مكانة الدولة، سواء كانت بريطانيا أو روسيا أو مصر أو اليابان على سبيل المثال، وبعض هذه الآثار فادح اجتماعيا وأخلاقيا وسلوكيا.
ولا أبالغ إن قلت إنه من بين الآثار الفادحة لتدهور المكانة الدولية التواضع المتدرج لذكاء وقدرات أجهزة صنع السياسة والقرار وإصابة القائمين عليها بضباب فى البصر والبصيرة وميلهم المتزايد إلى إثارة نعرات «التعصب الوطنى» لتغطية الانكسار والتعمية عن الأسباب الحقيقية للفشل. هذه السياسات وغيرها من سلوكيات دول فقدت مكانتها اخترت أن أطلق عليها «سياسات الانكسار وسلوكياته»
لم ينطق مرشح واحد من المرشحين الثلاثة بعبارة «تدهور المكانة»، بينما اجتمعوا على النطق بعبارة «استعادة المكانة». لم تكن غائبة عن أجواء المناقشات الأكاديمية المصاحبة للانتخابات ثلاثة تطورات مهمة: أولها أن العلاقة البريطانية مع الولايات المتحدة لم تعد علاقة خاصة كالعهد بها فى ولاية طونى بلير ومن قبله مارجريت تاتشر، وكانت فى الأصل من غرس ونستون تشرشل فى سنوات الحرب العالمية الثانية حين كان يستدرج الولايات المتحدة بعيدا عن أجواء الانعزالية إلى أجواء الصراعات الأوروبية..
ثانى التطورات، أن أوروبا، كفكرة ثم كيان سياسى متميز، تمر فى مرحلة ضعف، على الأقل كما تبدو للأمريكيين من جهة، وللأسيويين من جهة ثانية، ولمجموعة بريك BRIC، أى مجموعة الدول الناهضة وروسيا، من جهة ثالثة. أما التطور الثالث فيمثله الصعود المتنامى لهذه المجموعة من الدول الناهضة، أى البرازيل والصين والهند وإلى حد ما روسيا. اجتمعت هذه التطورات، مع تطورات سياسية واقتصادية وعسكرية أخرى، لتضيف إلى سياسات «استعادة المكانة» تعقيدات جديدة، وتزيد الشكوك فى إمكانية تغلب حكام بريطانيا على هذه الحالة المثيرة للاكتئاب النفسى لدى البريطانيين عموما.
فى هذا الشأن يقول روبرت نيبلت Robert Niblett مدير مؤسسة شاتام هاوس إنه قرر تشكيل مجموعة من الأكاديميين وقدامى الممارسين للسياسة الخارجية تكون وظيفتها «تقويم السياسة الخارجية لبريطانيا»، وقال إن الدراسات الاستطلاعية التى قامت بها المجموعة تثبت أن التطورات الداخلية والخارجية المتلاحقة سوف تؤثر قطعا على أمن بريطانيا ورخائها. وهذه التطورات هى:
1 ــ التحول فى مراكز الثقل من الغرب فى اتجاه الشرق فيما أصبح يشكل ما يشبه دورة جديدة من دورات التاريخ والتوازن العالمى.
2ــ ضعف الإنفاق البريطانى، على شئون الدفاع والدبلوماسية بجميع فروعها، وهو تطور أصبح ضرورة حتمية.
3ــ علاقة أقل وثوقا وأشد غموضا وتحوطا بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
4ــ استمرار عدم التأكد بالنسبة لحال الاتحاد الأوروبى ومستقبله ونفوذه الدولى وإمكاناته الكلية مقارنة بإمكانيات أخرى فى دول صاعدة.
لمست بين بعض صانعى الرأى فى الغرب أن بريطانيا الآن «قوة دولية متناقصة القوة» أو «قوة دولية انكمشت». يقول أحدهم أن الجغرافيا والتاريخ والتجارة والاستثمارات والثقافة كلها ستستمر تفرض على طبقة الحكم فى بريطانيا أن تكون عالمية فى نظرتها إلى دورها ومصالحها ولكن بنفوذ أقل ومتناقص. لذلك لا يتوقع أن ينساق الحكام البريطانيون وراء دعاة الانسحاب من العضوية الدائمة فى مجلس الأمن، أو التخلى عن الرادع النووى، فالانسحاب المفاجئ من الدور الدولى والإقليمى قد يتسبب فى سقوط مروع لثقة الإنسان البريطانى فى كرامته ودولته، وفى نفسه أيضا.
أقصى ما يمكن أن يفعله حكام بريطانيا فى السنوات القليلة القادمة هو التخلى عن سياسات الادعاء بلعب دور دولى كبير، بمعنى آخر تفادى اتخاذ قرارات من شأنها دفع بريطانيا إلى الالتزام بسياسات تعجز إمكاناتها ومكانتها الحالية على الوفاء بها.
كانت بريطانيا وماتزال، وربما بحكم موقعها وتاريخها، نموذجا لأمم أخرى فى عديد من الأمور. كثيرون ينصحون القادة الأمريكيين بقراءة تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وبخاصة لحظات انحسارها. وأظن أن واجبنا كمصريين أن نقرأ هذا التاريخ وإن تحت عنوان مختلف.
أذكر أن دين آتشيسون وزير خارجية أمريكا وقد بدا واضحا له ومؤكدا أن الإمبراطورية البريطانية تدخل مرحلة الانحسار، قال «لقد فقدت بريطانيا إمبراطوريتها وعليها أن تبحث عن دور». أراد أن يقول إن الدولة الإمبراطورية ليس لها دور محدد باعتبار أن هيمنتها مطلقة، ولعلها تتعالى على أن يكون لها دور.
ولكن عندما تنحسر الإمبراطورية تبدأ الدولة التى كانت مركزا لهذه الامبراطورية فى البحث عن دور يتناسب مع كونها دولة كباقى الدول ومع إمكاناتها المحددة نسبيا. وكان هارولد ويلسون، أول رئيس وزارة يشهد غروب الشمس عن الامبراطورية البريطانية، قديرا فى إدارته عملية انتقال بريطانيا من إمبراطورية إلى دولة لها دور بأقل تكلفة إنسانية وبدون اللجوء إلى إثارة نعرات تعصب قومى أو عنصرى ضد بقية شعوب الإمبراطورية التى حصلت على استقلالها.
وحسب ظن بعض الخبراء يبدو أن الرجل الذى سيحكم بريطانيا بعد فوزه فى الانتخابات التى تجرى اليوم، سيتعين عليه أن يكون على مستوى هارولد عندما يواجه مشكلة وضع منظومة جديدة للسياسة الخارجية البريطانية تراعى ظروف «المرحلة الثانية فى انحسار المكانة البريطانية».
ولا تخلو الساحة الأكاديمية وساحات الرأى من اقتراحات واجتهادات، جاء فى إحداها أن «القوة النسبية لبريطانيا ستتراجع بالتأكيد رغم أنه ليس بالضرورة أن يتبع هذا التراجع تراجع جديد فى مكانتها».
وتوصل آخرون فى اكسفورد إلى أنه من الممكن «تضخيم» المكانة بإقامة تحالفات عديدة مع دول ومجموعات متباينة وباستخدام الدبلوماسية الذكية، ويقصدون بها الاستخدام الأمثل للقوة الناعمة، ومنها «النموذج البريطانى فى الحكم»، ومن الضرورى أن توجد بريطانيا فى كل مكان تستطيع الوصول إليه بأقل تكلفة ممكنة، فتبقى فى مجلس الأمن وتحافظ على علاقتها بأمريكا وتنشط داخل الاتحاد الأوروبى وفى الكومونولث وتمارس وساطة فى أفريقيا والشرق الأوسط، بشرط أن يكون مفهوما لكل القوى الخارجية أن «جيش بريطانيا موجود للمساعدة فقط».
بمعنى آخر، يرفضون ان يكون دور بريطانيا الدولى «سلبيا»، كالدور الدولى لألمانيا، وهو الدور أعلن ميليباند وزير الخارجية أن بريطانيا ترفض القيام به، بينما يقول كاميرون مرشح حزب المحافظين أنه قد يكون من مصلحة بريطانيا «فك بعض الارتباط بالاتحاد الأوروبى واستعادة بعض الحقوق التى انتزعتها بروكسل «المفوضية الأوروبية»، ولا ينكر فى الوقت نفسه أن السياسات التى تركز على دور بريطانيا فى تحالف أطلسى واسع «كانت تقوم على وهم كبير» وهو أن لبريطانيا نفوذا قويا فى أوروبا. انكشف الوهم وظهرت حقيقة قوة بريطانيا وسقطت العلاقة التى كانت تربط أمريكا ببريطانيا.
بقى على السياسيين أن يجعلوا انحسار مكانة بريطانيا أقل صعوبة على نفس المواطن البريطانى ويعوضوه عنها ببرامج رفاه أكثر تطورا وعدالة اجتماعية أكثر تقدما.