عبيد يتمردون
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 6 يونيو 2012 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
رسمت خريطة للعالم وأمسكت بقلم يكتب باللون الأحمر وبحثت عن دول أسمع أو أقرأ عن ثورة ناشبة فيها لأضع مكانها بقلمى الأحمر نقطة. بانتهاء الرسم والبحث والتنقيط بالقلم الأحمر وجدت أمامى شكلا لعالم غريب تسكن أغلب بقاعه شعوب غاضبة تمردت على الظلم والقمع والاستغلال.
●●●
رسمت خريطة أخرى وأمسكت بقلم يكتب باللون الأزرق وبحثت عن دول أسمع أو أقرأ أن شعوبها ما زالت تمارس فى القرن الحادى والعشرين طقوسا دينية غير مألوفة وكثير منها لا يقبله عقل. وجدت أمامى على الخريطة شكلا لعالم غريب يعيش فى الألفية الثالثة تمارس أغلب شعوبه أغرب الطقوس بإيمان قوى واعتقاد راسخ.
●●●
واجهتنى كقائد سيارة فى الهند، مشكلتان. الأولى السياقة على يسار الطريق، وليس اليمين الذى درجنا عليه فى مصر. والثانية، تفادى أبقار قررت أن ترقد فى وسط الطريق لا تشغلها حركة المرور. وكنت قد تلقيت تحذيرا يوم استلامى السيارة ألا أحاول تحريك بقرة من هذه الأبقار أو إغراءها بأى وسيلة. وإذا تعذرت العودة إلى الوراء، فالمكوث فى السيارة أو إلى جانبها فى درجة حرارة 45 مئوية مصير يوم تعيس.
سألت وعرفت أن أسطورة الأبقار المقدسة تشكلت بالممارسة ولم يجد فقهاء الهندوسية لها مرجعا أو أصلا فى أى كتاب من كتبهم التراثية. عرفت أيضا أنها سبب من أهم أسباب الاشتباكات الدينية التى تنشب بين الحين والآخر بين المسلمين والهندوس، أو بين الهندوس والمسيحيين. وهى الآن مصدر توتر دائم بين الهند وبنجلاديش التى تستقبل يوميا آلاف الأبقار المهربة عبر الحدود، حيث يدفع المهربون رشاوى إلى حرس الحدود وبعضهم من الهندوس المتشددين.
كان من نتائج التغيرات الاجتماعية الكثيفة التى حدثت فى المجتمع الهندى خلال العقود الأخيرة حركة تحرير قطاع المنبوذين ويطلق عليهم Dalits، وهؤلاء كانوا ضحية «أعراف دينية» تقضى بعدم السماح لهم بالاقتراب من هندوسى آخر ينتمى إلى قطاع «أرقى» فى مراتب الدين.
لذلك كان أغلب المنبوذين يعملون فى مهنة الكنس وغسيل الملابس ولا يأكلون مع أبناء الطوائف الأخرى ولا يذهبون إلى مدارسهم وكانوا قبل الاستعمار الإنجليزى يتركون الطريق إذا لمحوا فى نهايته هندوسيا من طبقة البراهمة. تغير الكثير من هذه الأعراف بعد تمرد سلمى طويل وصل بالمنبوذين إلى حد المطالبة بحقهم فى التجارة فى الأبقار وذبحها وأكل لحومها.
وقد اجتمع رأى الأحزاب الدينية المتشددة والمنظمات الدولية لحماية حقوق الحيوان ورأى عدد كبير من السياسيين الهنود على انتقاد الحملة الداعية إلى السماح للحكومة بتصدير الأبقار أو السماح للطوائف غير الهندوسية بالتجارة فيها، وجاء فى بيان المنظمة الدولية لحماية الحيوان أن «البقرة حيوان مهم جدا للهندوس ولا يجوز التعرض له بالأذى».
●●●
فى تايلاند ودول أخرى فى جنوب آسيا، يحظى الفيل بمعاملة تليق بمكانته باعتباره «الحيوان القومى»، وبالرغم من هذه المكانة التى تصل إلى حد التقديس فى بورما وكامبوديا ولاوس، ما زال يستخدم فى رفع الأثقال وجر العربات ونقل الركاب، وفى الوقت نفسه يحترمه الناس على عكس المعاملة التى يلقاها الحمار فى مجتمعات أخرى تستخدمه للغرض نفسه. وليس كل الأفيال تحظى بدرجة واحدة من التقديس، فالفيل الأبيض يتصدرها جميعا. يقال إن أم «بوذا» حلمت به وهى حامل فى بوذا، ولذلك يعتقد الناس أن ميلاد فيل أبيض يعنى عهدا سعيدا قادما ووجوده فى مكان يعنى خيرا وفيرا للمكان وأهله.
●●●
وللقردة أيضا مكانة خاصة فى أنحاء كثيرة من آسيا. تقول الأساطير الهندوسية إن هانومان «الإله القرد» ساعد الإله راما الطيب على هزيمة الملك رافانا الشرير. يعود الفضل لهذه الأسطورة الدينية فى المحافظة على القرود والتعايش معها فى المدن والقرى الهندية. أذكر تجربتى الأولى مع هذه الآلهة فى أحد النوادى الاجتماعية بالهند، وقد تركت رغيف خبزى للحظة على حافة المقعد لأفاجأ بقرد يهبط من شجرة قريبة يخطف الرغيف ويجرح طفلا كان يلعب على مقربة مثيرا فزع الآخرين وتحذيراتهم بأن أكون أكثر حرصا. فالقرود فى الهند كالغربان فى بلدنا تنتظر فوق الأشجار لحظة مناسبة لتنقض على الأطعمة غير عابئة إن أصابت وجوها فشوهتها. والقرود فى الهند أشد خطرا من الغربان لأنها تدخل البيوت وتهاجم الناس، ورغم ذلك يترك لها الهنود، أغنياء وفقراء، طعامها على أبواب دورهم تيمنا وتبجيلا وتبركا.
●●●
حكايات المصريين مع آلهتهم بشرا كانوا أم حيوانات غزيرة ومثيرة. حكايتنا مع القطط مثلا تجعلنا أول أمة فى التاريخ قدست حيوانا ورفعته إلى مراتب الآلهة، وأول أمة سخطت إلها من آلهتها فأعادته حيوانا.