تقاعد رئيس محترم
عماد الدين حسين
آخر تحديث:
الجمعة 6 يونيو 2014 - 8:15 ص
بتوقيت القاهرة
أول مرة قابلت المستشار عدلى منصور كانت فى الخريف الماضى لمدة تزيد على ساعتين فى مقر إقامته بقصر بيان بالعاصمة الكويتية، وكان وقتها يترأس وفد مصر فى القمة العربية الأفريقية. وتشاء الصدف أن يكون آخر لقاء لى معه فى نفس القصر بالكويت أيضا أثناء القمة العربية فى مارس الماضى، وبينهما بعض اللقاءات السريعة على هامش احتفالات أو مؤتمرات.
فى اللقاء الأول، اقتربت من الرجل، واستمعت إليه، وحاورته مطولا، ونُشر جزء كبير من الحوار، فى هذه الصحيفة، لكن بعضا من الحوار لم يُنشر بناء على اتفاق أخلاقى مع مساعديه.
أحد الاسئلة كان عن إمكانية ترشحه للرئاسة، وهو الموضوع الذى كان مثارا وقتها كحل بديل إذا ما رفض الفريق اول عبدالفتاح السيسى ــ وقتها ــ عدم الترشح.
إجابة منصور كانت قاطعة فى الرفض، مشبها كرسى الرئاسة بالجمرة، وقتها طلب منى أحد مساعديه ألا أنشر هذا الرفض القاطع، فربما تتطلب مصلحة الوطن أن يتقدم الرجل للترشح.
فى هذا اللقاء تعرفت عن قرب على شخصية هذا الرجل. كان شديد الأدب واللياقة والتهذيب، يتحدث بتلقائية شديدة، ومن دون تكلف، ورغم ذلك لا يخطىء.
منحاز إلى أقصى مدى إلى مدنية مصر وحضارتها وعراقتها، وموقن أن فرص تقدمها كبيرة بلا حدود.
كان مدركا لخطورة اختياره لهذه المهمة التى جاءته بلا مقدمات، ضحى بأشياء كثيرة أهمها أنه سيعيش فى حالة قلق دائم على نفسه وعلى أسرته، ورغم ذلك قرر أن يختار الطريق الصعب لأن مصلحة بلده تحتم ذلك.
عندما قابلته فى هذا اليوم، لم أكن أظن أنه يعرفنى، فاجأنى بأنه يتابع ما أكتب وما أقوله أحيانا فى القنوات التليفزيونية. فى هذا اليوم أيضا اكتشفت أن الرجل دائم الابتسام خلافا لما يظنه كثيرون معتقدين أنه عبوس متجهم.
ربما يكون سر حب الكثيرين لعدلى منصور أن شخصيته جادة ومستقيمة قياسا على شخصيات سياسية كثيرة، هو هادئ، غير متكلف أو مدع، مثقف متواضع لا يتحدث كثيرا، لم يخرج على الناس ويقول«أنا الزعيم الأوحد».
فى كلمته الوداعية الأخيرة ظهر الاربعاء الماضى، زاد حب الناس لهذا الرجل، لأنهم أدركوا أن الحياة السياسية سوف تفتقد هذا النموذج. تحدث من القلب والعقل بلغة هادئة رصينة قوية بليغة معبرة تليق بسياسى مصرى كبير، حتى كلمته كانت مكتوبة بالتشكيل النحوى السليم.
الرجل قال إنه كان يدير البلد ولا يحكمها، لم يقع فى الخطأ القاتل الذى وقع فيه محمد نجيب حينما ظن أنه الزعيم الأول والأخير، فاصطدم بغالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة بزعامة جمال عبدالناصر.
عدلى منصور لم يكن رئيسا فرعونا، والسبب أن طبيعة البلد لم تكن تسمح بهذا، هو فوض رئيس الوزراء بغالبية الصلاحيات، إضافة إلى أن المؤسسة الأمنية كانت تدير هذا الملف بصورته اليومية، والنتيجة العامة أن جزءا كبيرا من الهيبة عاد لمؤسسة الرئاسة، وبطبيعة الحال هناك مستشارون ومساعدون كثيرون ساعدوا الرجل حتى يتم إنجاز المهمة بهذا الشكل.
عدلى منصور يستحق أن نوجه له أكبر تحية على دوره وجهده وأدبه وعلمه، ما جعلنا نستعيد مفهوم الكرامة والهيبة والاحترام لدى كبار المسئولين.
حق علينا أن نشيد بهذا الرجل وهو يغادر منصبه، حتى يدرك كل مسئول أن ما يبقى فى النهاية هو السمعة الطيبة فقط.
الصولجان يسقط، والمال ينفد، والأيام تدور، ولا يبقى إلا ما قدمته يداك.