الحوار
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 6 يونيو 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
بخطى واثقة، وإن بدت حذرة، تمضى مصرنا قدما على درب جمهوريتها الجديدة، الهادفة إلى تحقيق الاستغلال الأمثل لمختلف الموارد المتاحة بغية إسعاد المواطن. وبدأب، لا يعرف الكلل، تتوالى المشاريع التنموية العملاقة، وتتعانق المقاربات الإصلاحية الطموحة، فى سباق مع الزمن، لإنجاز المشروع الحضارى النهضوى.
قبل نهاية أبريل الماضى، وخلال حفل الإفطار السنوى للأسرة المصرية، الذى شهد هذه المرة مشاركة رموز للعمل السياسى من خارج معسكر الموالاة. فاجأ الرئيس السيسى الجميع، بالدعوة إلى «حوار سياسى شامل»، يضم مختلف القوى الوطنية، بغير استثناء أو تمييز. على أن ترفع مخرجاته مباشرة، إلى القيادة السياسية، التى تعهدت بحضور فعالياته الختامية. وإلى الأكاديمية الوطنية لتأهيل وتدريب الشباب، التى أنشئت بقرار رئاسى عام 2017، ويشرف على أعمالها مجلس أمناء يترأسه شخصيا، عَهد الرئيس بتنظيم الحوار.
مبتغيا مد جسور الثقة مع القوى السياسية، أكد الرئيس أن «مصر تتسع للجميع، وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية». ولفت النظر إلى أن الإصلاح السياسى، كان من بين تطلعات الدولة، لكن «الأولويات» اضطرتها لتأجيله. واليوم، حان وقته، فى ضوء ما حققته الدولة من نجاحات، على صعيدى الإصلاح الاقتصادى، والاستقرار الأمنى.
وفى مؤلفه المعنون: «النظام السياسى فى المجتمعات المتغيرة»، يرجع المفكر الأمريكى، صمويل هنتنجتون، استعصاء توطين التنمية والديمقراطية فى غالبية البلدان النامية، إلى غياب الاستقرار، جراء استفحال الانحلال السياسى المؤسسى، وعدم الالتزام بالإطار القانونى والدستورى الناظم للتفاعلات الحياتية والممارسة السياسية، بما يفضى، فى نهاية المطاف، إلى إشاعة الفوضى وتأجيج العنف المجتمعى.
وجه الرئيس، كذلك، بإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسى، التى تم تشكيلها كأحد مخرجات المؤتمر الوطنى للشباب عام 2016، مع توسيع قاعدة عملها بالتعاون مع الأجهزة المختصة ومنظمات المجتمع المدنى المعنية، لتشمل الغارمين والغارمات إلى جانب الشباب المحبوسين على خلفية قضايا الرأى. وبعدما فتحت الباب أمام الأحزاب والقوى السياسية، والمجلس القومى لحقوق الإنسان، ولجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، لتقديم أسماء الشباب الموقوفين، سياسيا، شرعت فى إصدار قوائم جديدة بالعفو عن زرافات منهم.
جاءت دعوة الرئيس للحوار السياسى الجامع، تتويجا لخطوات إيجابية مهمة خطاها، أخيرا، فى ذات الاتجاه. كانت أولاها، إبان افتتاحه فعاليات المؤتمر الوزارى الثامن لمنظمة التعاون الإسلامى الخاص بالمرأة، فى الثامن من يوليو الماضى بالعاصمة الإدارية الجديدة. فحينئذ، أطلق مبادرة «الجمهورية الجديدة»، إيذانا بميلاد مصر مختلفة تتسع للجميع، دونما تفرقة أوإقصاء، وفى كنف مبادئ الديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والمواطنة. وفى11 سبتمبر الماضى، أطلق السيسى «الاستراتيجية الوطنية الأولى لحقوق الإنسان»، كأول استراتيجية ذاتية، ومتكاملة، ومستدامة، بهذا الصدد. إذ تتضمن أربعة محاور أساسية، هى: التثقيف. وبناء القدرات، والحقوق المدنية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. وحقوق المرأة، والطفل، ومتحدى الإعاقة، والشباب، وكبار السن. وترنو الاستراتيجية إلى تعميق وصيانة الحقوق والحريات كافة، من خلال تطوير سياسات وتوجهات الدولة فى التعامل مع الملفات ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات العامة.
وفى خطوة جريئة وعبقرية، أعلن الرئيس، فى أكتوبر الفائت، إلغاء مد حالة الطوارئ فى عموم البلاد. ما يفصح عن تحسن لافت فى مناخ الاستقرار والأمن، الذى تعيشه البلاد، كما يعطى إشارات إيجابية على صعيد تهيئة الأجواء لتنشيط السياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية. ورغم استمرار فرض حالة الطوارئ فى مصر منذ أبريل 2017، والتى كان يتم تجديدها كل ثلاثة أشهر، إلا أن بداياتها وتداعياتها الثقال، ظلت تقض مضاجع البلاد والعباد طيلة نصف قرن مضى. الأمر الذى يشى بتغيير جذرى فى فلسفة الحكم ونهج إدارة الدولة، بما يساعد على توطين الديمقراطية، ويكفل إنجاح مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة، بوصفها دعائم راسخة للجمهورية الجديدة.
ما برحت خبرات المصريين المؤلمة مع تجارب الحوار الوطنى السابقة، تلقى بظلالها المريبة على الحوار السياسى المزمع. فرغم مواكبتها منعطفات تاريخية مصيرية، أسفر افتقادها للجدية والصدقية، عن تفريغها من مضمونها. ففى مطلع ستينيات القرن الماضى، تمخضت تجربة الحوار عن إصدار «الميثاق الوطنى»، الذى غدا إطارا فكريا لسياسة الدولة، وإعلانا لمبادئ التحول نحو الاشتراكية فى الداخل، والقومية والوحدة العربية فى الخارج. وعقب حرب أكتوبر 1973، توسل حوار وطنى تحديد معالم المرحلة التالية، وانبثقت عنه وثيقة أكتوبر، التى ولجت على إثرها البلاد، حقبة التعددية الحزبية المقيدة، كما وقعت فى براثن الخلاف حول الانفتاح الاقتصادى والسلام مع إسرائيل. وكان من سوء الطالع، أن أفضى الأول إلى هزيمة يونيو ١٩٦٧؛ فيما انتهى الثانى إلى اغتيال الرئيس السادات. وخلال سنى حكم مبارك، انعقدت حوارات احتفالية عديدة، ثم انفضت دونما نتائج ملموسة. وتزامنا مع ثورة يناير ٢٠١١، التأمت حوارات شتى، لكنها عجزت عن انتشال البلاد من نفقها المظلم، بعدما زادت المشهد السياسى تعقيدا واستقطابا. ومنذ ثورة يونيو ٢٠١٣، ظلت الدعوة إلى الحوار تراوح مكانها، حتى تلقفها الرئيس السيسى وأطلقها فى أبريل الماضى.
على إثر ذلك، جنح ما يعرف بتحالف الأحزاب والقوى السياسية، الذى يضم 40 حزبا، تشكل «الحركة المدنية الديمقراطية»، للمطالبة بضمانات مسبقة، قبل المشاركة فى الحوار. أهمها، تجنب مآلات التجارب الحوارية المريرة السابقة. وتشكيل لجنة محايدة من كبار الخبراء الوطنيين، المشهود لهم بالكفاءة، والنزاهة، والتجرد، تتولى الإعداد للحوار، وإدارته، وصياغة مخرجاته، وإطلاع الرأى العام على ما تم إنجازه. وأن يكون حوارا وطنيا شاملا لكل القضايا والفاعلين السياسيين، بحيث ينتهى إلى نتائج عملية، تترجم مباشرة إلى قرارات وسياسات وتشريعات. هذا فى حين تعتقد الموالاة وزمرة من المثقفين، أن عقد الحوار تحت مظلة رئاسة الجمهورية، يعد ضمانة مثلى لترجمة مخرجاته إلى واقع فعلى، خصوصا أن السلطة التنفيذية، هى المخولة، دستوريا، بإحالة المقترحات ومشروعات القوانين للبرلمان.
لما كانت المبادرة الرئاسية المصرية بشأن الحوار الوطنى، تتزامن مع أخريات مشابهات لدى الجزائر، وتونس، والأردن، والسودان، فقد استمرأ البعض ربط الأمر، بمواصلة دوائر غربية ضغوطها على مصر والدول العربية، فيما يتصل بملفى الديمقراطية وحقوق الإنسان. علاوة على مطالبتها إياهم، هذه الأيام، بالتخلى عن سياسة الحياد الإيجابى التى ينتهجونها حيال الغزو الروسى لأوكرانيا، وحضهم على تبنى مواقف أكثر حزما إزاء موسكو. غير أن السلطات المصرية نفت بشدة أن تأتى مبادرتها للحوار استجابة لإملاءات خارجية، أو حيلة للالتفاف عليها. مؤكدة أنها نابعة من توجه وطنى صميم نحو بناء جمهورية جديدة، تتوسل غدا أفضل لأبنائها قاطبة.
لئن كان أفلاطون يرى فى الحوار سبيلا أمثل لإدراك الحقيقة، فإن، هابرماس، يرهن نجاح الحوار الجامع، بتوفر حزمة متطلبات، أبرزها: الصدقية، والمساواة، والحياد، والموضوعية، والشفافية، وإعلاء المصلحة الوطنية، والثقة. وفى الحالة المصرية، برأسها تطل الحاجة الماسة لزيادة منسوب الثقة القائم بين النظام والقوى السياسية، بمختلف مشاربها. ويأتى فى مقدمة الإجراءات اللازمة لبناء تلك الثقة، ضرورة حسم الجدل المٌضنى والمُزمن، حول قواعد وحدود الممارسة السياسة الممكنة فى مجتمعنا. فبينما لا يلمس قطاع عريض من الانتلجنسيا والوسائط السياسية، أفقا للجمهورية الجديدة، فى غياب إصلاح سياسى حقيقى. لا زالت تتملك بعض أجهزة الدولة هواجس من أن يؤدى توسيع حرية الحركة للفاعلين السياسيين، وتقليص القيود على المجال العام، إلى اضطراب المسيرة، والنيل من استقرار وتماسك النظام السياسى.
سياسيا كان، أو شاملا، أو وطنيا، أو جامعا، يبقى تعظيم رصيد الثقة كفيلا بتبديد الغيوم التى تكتنف طبيعة الحوار المرتقب، أيا كان نعته أو مسماه. فعبر جسور الثقة ستلتئم الفجوة بين فسطاط يضم الحركة المدنية ورهطا من المراقبين وأصحاب الرأى، ويتوخى رحابة فى جدول أعمال ذلك الحوار، ليشمل قضايا العمل الوطنى كافة، لاسيما الحريات العامة والتحول الديمقراطى. وفسطاط آخر تمثله السلطة والموالاة، ويفضل حوارا يوغل فى مناقشة التحديات والتهديدات، وسبر أغوار الأمور الفنية، المتعلقة بفلسفة الحكومة فى إعطاء الأولوية، خلال السنوات الثمانى المنقضية، للسياسات الأمنية، والخطط التنموية.
وإذا كانت خصوصية أوضاع كل دولة تطبع بصماتها على مجريات ومآلات تجاربها فى الحوار الوطنى، تظل هناك دوما إمكانية للاستفادة من الخبرات العالمية الرائدة فى هذا المضمار. فغير بعيد عن ديارنا، تسنى لحالات مشابهة كالبرازيل وتشيلى، تقديم نموذجين ملهمين، لجهة التحرر من إرث الماضى المؤلم، والتأسيس لمستقبل أفضل، عبر تعزيز أواصرالثقة، وإرساء دعائم الحكم الرشيد.