سيادة واحدة
إبراهيم الهضيبى
آخر تحديث:
الجمعة 6 يوليه 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
بعض الصور أبلغ من ألف كلمة، ومنها صورة الرئيس محمد مرسى وهو يجلس جنبا إلى جنب، فى ندية تامة، مع المشير حسين طنطاوى، بحضور أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى مشهد عكس أزمة الديمقراطية فى مصر، الناتجة عن إصرار القيادات العسكرية الاستقلال عن الدولة المصرية وإرادة المصريين.
رفض العسكر الخضوع لسيادة الشعب لم يعد موضع شك، فسعيهم للاستقلال الاقتصادى أكده تصريح مساعد وزير الدفاع للشئون المالية والمحاسبية فى مارس الماضى أن المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة هى «عرق» وزارة الدفاع وليست أموالا للدولة، ورفضه خضوع هذه المؤسسات لمراقبة الدولة أو تفرغ العسكر لمهامهم القتالية، وقيام العسكر قبل ذلك بـ«إقراض» الدولة مبلغ مليار جنيه، لا تزال تنتظر ردها، وهو ما يعنى إبقاء الذمة المالية للمؤسسة العسكرية مستقلة عن الدولة.
على أن مسعى العسكر للاستقلال غير مقتصر على الاقتصاد، بل يؤسس الإعلان الدستورى المكمل الصادر فى 17 يونيو المنصرم لوجود سيادة موازية لسيادة الشعب، ومشكلات هذا الإعلان الدستورى تشمل الشكل والمضمون جميعا، فأما من حيث الشكل فقد صدر من غير ذى صفة، لأن المجلس العسكرى فقد سلطة التشريع بانعقاد مجلس الشعب فى يناير الماضى، ففقد معها ــ من باب أولى ــ سلطة التأسيس الدستورى (على افتراض أنه كان يمتلكها ابتداء)، والحق أنه لم يكن يمتلك مثل هذه السلطة التأسيسية التى تحتاج لموافقة شعبية، وإن كان الرئيس والبرلمان المنتخبان لا يمتلكان سلطة تغيير الدستور بغير استفتاء شعبى فإن المجلس العسكرى غير المنتخب ــ من باب أولى ــ لا يمتلك مثل هذه السلطة.
وتذرع العسكر بضرورة وجودهم لعدم تسليم الدولة لسلطة واحدة (هى الرئيس المنتخب) فى ظل حل البرلمان منقوض من جهتين، أولاهما أن العسكر ظلوا جهة وحيدة فى السلطة طيلة سنة رغم كونهم ــ بخلاف الرئيس ــ غير منتخبين، وثانيتهما أن البرلمان إنما انحل بقرار صادر من المجلس العسكرى ذاته، لم يكن واجبا عليه أن يصدره، وكان الأولى ــ لو خلصت النوايا ــ ترك ملف التعامل مع الحكم بعدم دستورية قانون الانتخابات للرئيس المنتخب بدلا من المبادرة بحل البرلمان قبيل تسلمه مهام منصبه، ولا يمكن التسليم ببقاء العسكرى فى السلطة تذرعا بمشكلة كان هو السبب فيها ابتداء، وبذلك يصير الإعلان الدستورى بمجرد إصداره، وبقطع النظر عن مضمونه، تدخلا متجاوزا لاحترام السيادة الشعبية، ومؤسسا للسيادة الموازية للعسكر.
أما من حيث المضمون فإن الإعلان يؤسس لسيادة العسكر من ثلاث جهات، أولاها استعادة غير المنتخبين سلطة التشريع (مادة 56 مكرر) فى ظل وجود سلطة منتخبة ديمقراطيا، فمع التنازل والقبول بحل البرلمان يصير الأولى تعطيل الوظيفة التشريعية والمبادرة بإعادة انتخاب البرلمان لا انتزاع هذه السلطة من قبل جهة تقل فى شرعيتها عن البرلمان المطعون فى دستورية نصوص انتخابه من غير طعن جاد فى الشرعية الديمقراطية التى أتت به.
ثانى جهات التأسيس للسيادة العسكرية توكيد استقلال المؤسسة عن السلطة التنفيذية وعدم قبولها المحاسبة والرقابة التى تفرضها الأعراف الديمقراطية، وذلك بدسترة التشكيل القائم للمجلس العسكرى وتحصينه وفرض سيادته الكاملة على كل ما يتعلق بالقوات المسلحة (مادة 53 مكرر)، وهو ما يعنى عمليا أن يصير رئيس المجلس رئيسا لـ(دولة القوات المسلحة)، ذات السيادة المستقلة عن الشعب، فى تناقض صريح مواد الإعلان الدستورى، الناص على أن «القوات المسلحة ملك الشعب» (مادة 53)، وأن «السيادة للشعب وحده» (مادة 3)، وفى تناقض صريح مع بنية الأنظمة الديمقراطية التى تجعل غير المنتخب تابعا للمنتخب، وتجعل الجهات الممتلكة للقوة المادية تابعة للجهات صاحبة الشرعية الديمقراطية.
وهذا الاستقلال الشاذ للمؤسسة العسكرية عن سلطان الديمقراطية يؤكده اشتراط موافقة العسكريين (وهو جهة تنفيذية بالأساس لا جهة اتخاذ قرار) لإعلان الحرب (مادة 53 مكرر 1)، وكذلك تعليق خضوعهم لأوامر رئيس الدولة (الذى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة) بشأن التدخل عند حدوث اضطرابات على موافقتهم (مادة 53 مكرر 2)، الأمر الذى يعنى أن هذه الجهة غير المنتخبة تعطى لنفسها الحق الدستورى فى معاندة إرادة المصريين الديمقراطية، وفى رد اختياراتهم الشرعية.
ثالثة الجهات محاولة العسكر بسط سيادتهم لتتجاوز مؤسستهم إلى المجتمع كافة، وذلك باغتصابهم ــ رغم كونهم جهة غير منتخبة ــ حق تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور لو قام مانع يحول دون استكمال الجمعية القائمة عملها (مادة 60 مكرر)، رغم أن ذلك هو ــ ديمقراطيا ــ أسوأ الخيارات، بعد الانتخاب المباشر للجمعية، واختيارها من قبل الجهة المنتخبة فى الحكم.
على أن التدخل فى الدستور لا يتوقف عند هذا الحد، إذ يعطى العسكر أنفسهم وبعض غيرهم الحق فى الاعتراض على نصوص الدستور، ويجعلون القول الفصل فى هذه المواد للمحكمة الدستورية العليا (مادة 60 مكرر 1)، رغم أن اختصاص المحكمة هو النظر فى موافقة القوانين للدستور، لا النظر فى نفس دستورية الدستور! الأمر الذى يجعل خصها بالفصل فى مواد دستورية، الشعب هو صاحب قرار إقرارها أو عدمه فى النهاية، تدخلا سافرا من قبل غير المنتخبين فى فرض الإرادة الديمقراطية.
والتأسيس للسيادة العسكرية تجاوز الإعلان الدستورى المكمل، فقد أعقبه قرار المشير طنطاوى بتشكيل مجلس الدفاع الوطنى، والذى حاز فيه العسكريون غير المنتخبين الأغلبية الكاسحة، بأن صار لهم فيه أحد عشر ممثلا (غالبهم لا داعى لوجودهم لأن قياداتهم موجودة)، مقابل ستة مدنيين (على افتراض كون وزير الداخلية مدنيا)، مع اشتراط حضور أكثر من نصف الأعضاء لتصح اجتماعات المجلس، واشتراط الأغلبية المطلقة فى التصويت، وهو ما يعنى ــ عمليا ــ التحكم الكامل للعسكر فى إدارة شئون الأمن الداخلى والخارجى، وهى مفاهيم مطاطة تصلح ذريعة لتدخل العسكريين فى كل مجالات الحياة والحكم.
إن استمرار مثل هذا الوضع، الذى يبدو فيه المشير طنطاوى ندا للرئيس مرسى لا مرءوسا عنده، ينذر بعدم استقرار الحكم، وبقتل الديمقراطية فى مهدها، والردة عن مسيرة تحرير الإرادة الوطنية التى تعصم القرارات السياسية من التبعية لمصالح غير الجماعة الوطنية، ذلك أن السيادة لا تقبل القسمة على اثنين، ومحاولة اقتسامها تعطل توجد اضطرابات كالتى شهدتها تركيا طوال حقبة التسعينيات، ولا تنتهى هذه الاضطرابات إلا بحسم الصراع لصالح أحد الطرفين.
ليس من حق الرئيس مرسى القبول بهذا الوضع، فقد انتخب بإرادة ديمقراطية، ووقف خصومه فى صفه يطالبون بصلاحياته الكاملة، إدراكا منهم بأولوية هذه المعركة الدائرة حول محل السيادة على الخصومة حول التوجهات السياسية، وقد خذلهم الرئيس المنتخب بقبوله القسم أمام المحكمة الدستورية، غير أنه لم يزل يؤكد أنه سيقاتل من أجل صلاحياته الكاملة، ومنها صلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولو صدق الرئيس فى تعهده فسيجد فى هذه المعركة دعما من أنصاره وخصومه الديمقراطيين، ولو لم يصدق فيسخسر الوطن بالردة للحكم العسكرى، وسيخسر هو قبل الجميع.