عن البيانات السياسية لمحكمة الجنايات من قضية مبارك إلى «التعذيب الكبرى»
عمرو الشلقاني
آخر تحديث:
السبت 7 يوليه 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
اختارت محكمة الجنايات فى قضية مبارك وأعوانه أن تبدأ جلسة النطق بالحكم بقراءة بيان سياسى محض، لا صلة له بعمل المحكمة الأصيل فى الفصل بالنزاع وبيان تسبيبه..
استغرق تلاوة البيان هذا من رئيس المحكمة ما يقرب العشرين دقيقة، أمضاها ما بين التنديد بظلمة سنوات مصر مبارك والتهليل لنور ثورة 25 يناير، ثم التدليل على تفانى أداء المحكمة فى مهمتها التاريخية بسرد حسابات رقمية عن أيام الجلسات وعددها ومقدار ساعاتها، لينتقل أخيرا رئيس المحكمة إلى الغرض الأصلى من جلوسه قاضيا على المنصة، فتوقف الرجل عن تلاوة بيانه السياسى هذا، وأعاد ترتيب أوراقه بما يناسب وظيفته القضائية، ثم استوى على نبرة صوت فيها من الرخامة والحزم ما يعلن به عزمه أخيرا على قراءة «منطوق الأحكام»، وتلاوة «فقرات بسيطة من أسبابها»، والمكتوبة «بخط اليد»، كما أشار علينا، دون أن يوضح ما إذا كانت الكتابة قد تمت بالقلم الرصاص أم الحبر الجاف؟
لم تشهد محكمة جنايات القاهرة مثل هذا البيان السياسى السابق على نطق المحكمة بقضائها إلا مرة واحدة، كانت فى يونيو 1988، وبشأن دعاوى التعذيب التى رفعتها النيابة العامة على قيادات الشرطة حينئذ، فيما عرف بقضية التعذيب الكبرى، والتى انتهت فيها المحكمة إلى براءة جميع المتهمين فى وزارة الداخلية مما نسب لهم، ورفض الدعوى المدنية ضدهم، بعد أن قدمت المحكمة لحكمها بيانا سياسيا مماثلا لما صدر عن المستشار أحمد بك رفعت، أخذت فيه بالشرح أن أهم أسباب براءة المتهمين بالتعذيب من الشرطة كان «سطحية التحقيقات» التى قامت بها النيابة و«عدم كفايتها» لإدانة المتهمين، تماما مثلما رأينا فى البيان السابق على النطق بالحكم فى قضية مبارك وأعوانه، والتى لم يتوقف رئيس المحكمة فيه من الإشارة المتكررة إلى «خلو أوراق الدعوى» من أدلة تثبت بأن وفاة وإصابة المتظاهرين حدثت من سيارات أو أسلحة تابعة لجهاز الشرطة، لينتهى إلى براءة جميع مساعدى وزير الداخلية من التهم المنسوبة إليهم بشأن قتل الثوار.
أعقب صدور حكم الجنايات سنة 1988، وبأيام معدودة، تقديم المستشار الجليل أحمد بك مكى بمذكرة إلى زملائه أعضاء مجلس إدارة نادى القضاة حينئذ، مطالبا بعقد جلسة طارئة لتدارس أمر البيان الصادر من المحكمة، السابق على نطقها بالحكم، وكان للمستشار مكى فى ذلك وجهين اعتراض، أولهما خروج مثل تلك البيانات عن «التقاليد القضائية بعدم جواز تقديم المحاكم القضائية لأحكامها ببيانات، وإنما أن تقيم أحكامها على الأسباب وحدها، على أساس أن الغاية الوحيدة لتحرير الأسباب كما يتطلبها القانون أن تدل على صحة استيعاب المحكمة لوقائع النزاع ودفاع الخصوم حتى تتمكن المحكمة الأعلى من مراقبة سلامة المنطق الذى أدى إلى النتيجة التى خلص إليها الحكم»، وذهب المستشار الجليل فى مذكرته فيما ذهب إلى أنه «لا يجوز للقاضى أن يقرن حكمه بغيرها من بيانات أو أن يستهدف غاية أخرى، وإلا حق للناس أن يظنوا به الظنون وأن يتوهموا ان التوازن القانونى لديه قد اختل، إما اتقاء لثورة جمهور غاضب أو طمعا فى رضا سلطان جائر».
●●●
أما ثانى أسباب اعتراض المستشار أحمد مكى على بيان محكمة الجنايات سنة 1988 فيتصل بخروج البيان عما استقر عليه حكم القانون وأحكام القضاء، منذ أن حكمت محكمة النقض سنة 1932 بأنه «ليس للمحاكم أن تلوم النيابة بسبب طريقة سيرها فى أداء وظيفتها.. فإذا رأت عليها شى فى هذا السبيل فعليها أن تلجأ إلى رياستها»، حيث إن العبرة كما أشار مكى سنة 1988 «إنما هى بالتحقيق النهائى الذى تجريه المحكمة بنفسها.. ثم ماذا بقى من الثقة فى القضاء ورجاله إذا كانت قضية لها هذه الأهمية وحُشد لتحقيقها صفوة من قضاة التحقيق.. توصف تحقيقاتهم بعد ذلك بعدم الكفاية، بل بالسطحية؟».
ختم مكى منذ ربع قرن مذكرته إلى نادى القضاة، متسائلا كيف يمكن للأحكام المسبوقة بالبيانات «أن تستمر لها حرمة تفرض على الناس احترامها حتى عند الطعن فيها، فهل لنا أن نسأل الناس احتراما لما سوف يصدر من بعض المحاكم من إعلانات وبيانات لا يعرفون من المخاطب بها، ولا المقصود منها، فيظنو بأصحابها الظنون؟».
التقط الأستاذ المرحوم د. محمد عصفور الخيط من مذكرة مكى هذه، وأخذ ينشر فى جريد الوفد سلسلة من المقالات فى يوليو 1988، كان غرضها الرد على ما نشره رجال النظام فى الصحافة القومية وقتها، أمثال سمير رجب فى جريدة المساء وموسى صبرى وسعيد سنبل فى جريدة الأخبار، حيث ذهبوا للاحتفاء بحكم براءة الداخلية فى قضية التعذيب، متعللين بأن «العلاقة بين رجل الشارع وجهاز الأمن قد تعرضت فى الآونة الأخيرة لهزة عنيفة نتيجة عمليات الشحن والاستفزاز المستمرة التى مارسها أعضاء مجلس نقابة المحامين وبعض صحف المعارضة»، ومهللين بالطبع للبيان السابق على حكم البراءة.
ختم الدكتور عصفور مقالاته هذه ببلاغ إلى مجلس القضاء الأعلى، نشره كشكوى عاجلة من التصرفات الشاذة والآراء المنكرة التى تضمنها بيان محكمة الجنايات، باعتباره جزءا من إصرار نظام مبارك على حكم البلاد حكما بوليسيا «يشعر معه وزير الداخلية أن لديه صكا على بياض فى أن يعامل المواطنين معاملة أهالى المستعمرات.. لتستمر وزارة الداخلية فى ممارسة التعذيب فى السجون والمعتقلات، بل وأقسام البوليس».
لنا فى اعتراضات مكى وعصفور ضد بيان محكمة الجنايات سنة 1988 ما يجب أن نكرره فى قراءة بيان محكمة الجنايات فى قضية مبارك وأعوانه سنة 2012، والإسقاط هنا ما بين الماضى والحاضر أوضح للقارئ من أن نعلله، ويكفينا ما رأينا فى جلسة المحاكمة من هتاف يدعو إلى «تطهير القضاء» أعقب صدور الحكم ببراءة جميع مساعدى وزير الداخلية، كان للبيان السابق على الحكم فيها أثره المؤكد فى تأجيج مشاعر الشك والريبة لدى الحضور فى حيدة المنصة وحكمها.
●●●
وختاما، لا نرى فيما سبق من تعقيب على بيان المحكمة فى قضية مبارك وأعوانه أى خروج عن ما نادى به مؤخرا المستشار الجليل حسام بك الغريانى، رئيس مجلس القضاء الأعلى، من أن «يكف الجميع شعبا وإعلاما عن التعرض لأحكام مطعون عليها أمام محكمة النقض»، فنحن لا نتعرض هنا للحكم أو أسبابه، وإنما يقتصر حديثنا على بيان سياسى، لا صلة له بعمل القضاء الأصلى فى فصل المنازعات بالقانون، والقانون وحده، بعد أن خرجت محكمة الجنايات علينا ببيان سياسى محض يعيد إلى الأذهان بيانها السابق فى قضايا التعذيب سنة 1988، ولتفتح الباب بذلك مرة ثانية إلى ضرورة تقديم بلاغ مفتوح لمجلس القضاء الأعلى كشكوى عاجلة للتحقيق فى هذا الخروج السافر عن تقاليد القضاء وأحكامة السابقة وأعرافه المستقرة.