فى ٢٩ يونيو الماضى احتفل العالم بمرور عقد من الزمان على إنتاج أول آيفون، جرى الاحتفال من دون أن يشارك فيه ستيڤ چوبز صاحب براءة الاختراع لأنه رحل عن عالمنا منذ ست سنوات. كان چوبز طفلا انطوائيا كما قالت عنه مُدرِّسته، ولم يكمل تعليمه الجامعى حتى نهايته، وتربى بعيدا عن والديه نتيجة تعقيدات تولدت عن التزاوج بين أم أمريكية وأب سورى، لكن لعل هذه الظروف نفسها كانت وراء صناعة اسم كبير ليس فقط فى عالم الهواتف المحمولة لكن أيضا فى عالم الحواسب النقالة، فربما كان تحرره من الدروس والتكليفات الجامعية سببا فى إعطائه مزيدا من الوقت ليصمم ويبتكر ويتوصل لصناعة أول كمبيوتر شخصى فى عام ١٩٧٦ وعمره لم يتجاوز بعد الواحد والعشرين عاما، هذا الكمبيوتر أحدث طفرة كبيرة فى عالم الحواسب وجعل فى إمكاننا اقتناء الجهاز الذى ظل حكرا على الشركات والمؤسسات الكبيرة. وربما كونه نشأ فى كنف بول وكلارا اللذين تبنياه بعد تخلى والديه عنه هو الذى سمح له بأن يكتشف خبايا الورشة التى فتحها بول فى جراچ منزله وأتاح له أن يعبث بمحتوياتها. كان أبوه بالتبنى يعطيه المطرقة ويطلب منه أن يدق بها المسامير دقّا خفيفا فكان يفعل مبهورا وهو يتابع كيف لدقاته أن تُثّبت رفّا خشبيا أو مزلاجا من النحاس واكتسبت أنامله حساسية التعامل مع الأدوات والأشياء فإذا به يُبدع وينطلق. لذلك نجد مثلا أنه بينما كان بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت يكتفى بتطوير أنظمة التشغيل (Operating Systems) للحواسب فإن ستيڤ جوبز مؤسس شركة آبل كان يُصّنع الأجهزة وأنظمة التشغيل معا (Hardware&Operating Systems )، وعرف هذا المجال الذى تتعلق به عيون ملايين البشر حول العالم تنافسا محموما بين الرجلين حتى خرج چوبز من حلبة السباق بوفاته فى عام ٢٠١١.
***
مع صناعة أول آيفون فى عام ٢٠٠٧ انتقلنا من التليفون الذى يُرسل المكالمات والرسائل النصّية ويستقبلها إلى نوع جديد من التليفونات يلتقط الصورة ويذيع الڤيديو. بل طغت هذه الوظائف غير اللصيقة بالتليفون على وظيفته الأساسية حتى لم يعد المشترى يسأل إلا عن قدرات الكاميرا وصفاء الصورة، ولا عادت قائمة أسماء الأهل والمعارف تشغل إلا جزءا محدودا من ذاكرة هذه الأجهزة الذكية، أما المساحة الأكبر فتشغلها الڤيديوهات والتسجيلات والصور. وفِى الواقع فإن شركة آبل التى أسسها چوبز استطاعت أن تلاحق تطلعات المستهلكين وتسابق الزمن وهى تطور بضاعتها من عام لآخر وتنتقل بِنَا من آيفون ٤ إلى آيفون ٥ ثم ٦ و٧ وها هى تستعد فى خريف هذا العام لطرح آيفون ٨ فى الأسواق. هل أقول أيضا إن الشركة عبر عقد من الزمن استطاعت بامتياز أن تتلاعب بأذواقنا فتنقلنا من التعلق بالهواتف الصغيرة إلى الإقبال على الهواتف الضخمة وأن تعودنا على وضع تلك الهواتف الكبيرة على آذاننا بل وعلى قضاء كل احتياجاتنا ونحن نسندها بأكتافنا؟ للأمانة كنا دائما كمستهلكين عند حسن ظن شركات المحمول بِنَا وأقبلنا على شراء منتجاتها بلهفة ملحوظة، حتى إذا طُرح آيفون ٦ مثلا للبيع بالأسواق تم شراء ١٣ مليون جهاز منه فى ثلاثة أيام فقط لا غير.
***
ماذا فعل بِنَا ستيڤ چوبز؟ لقد أشاع فينا إدمانا لهاتفه الذكى الذى يجمع كل بياناتنا وذكرياتنا حتى إذا ضاع منّا ضعنا معه فمن يجده سيعرف عنّا ما داريناه عن أقرب الناس إلينا لكن ما باليد حيلة. فى الحقيقة فإن انكشاف خصوصياتنا لا يتم دائما رغما عنّا بل الأرجح أننا الذين نتنازل طوعا عن تلك الخصوصية ونحن نقوم بتحميل تطبيقات التواصل الاجتماعى. خصوصية الأفراد مثلها مثل سيادة الدول شهدت تغير مفهومها بالكلية ولم يعد لأى منّا عين كى يقول «عفوا هذا أمر شخصى» لأنه فى اللحظة التى يُنشِئ فيها أحدنا حسابا على فيسبوك أو تويتر فإنه سيُدخل الآخرين إلى دائرته الخاصة، سيكتب كلمة أو يطلب دعاء أو يعرض صورة فيعرف الأصدقاء الافتراضيون الحالة المزاجية لصاحبها وما هو أكثر بكثير من حالته المزاجية. الفارق بين انتهاك سيادة الدول وإهدار خصوصياتنا أمران، الأول أن تآكل مفهوم السيادة المطلقة الذى التصق بالدولة القومية منذ ١٦٤٨ تم بالتدريج وبدرجة نسبية تختلف من دولة لأخرى، وفِى المقابل فإن ثلاثة عشر عاما منذ تأسيس شركة فيسبوك كانت كافية لإحداث انهيار مفاجئ وكلى وعام فى خصوصيات الأفراد، والثانى أن تآكل سيادة الدول فى معظمه نتيجة التطورات الدولية من أول العولمة والسماوات المفتوحة والكروت النقدية وحتى وسائل التواصل الاجتماعى، أما انهيار خصوصيات الأفراد فهو وليد تطورات داخلية أو بمعنى أدق وليد الإرادة الذاتية لنا جميعا. لماذا يعمم الناس خصوصياتهم؟ ليست عندى إجابة واحدة عن هذا السؤال، فربما تعلق الأمر بالموضة أو بالرغبة فى الفضفضة أو بالفراغ أو بغير ذلك من الأسباب.
***
مع الآيفون وتطبيقاته صارت حياتنا أسهل جدا وأصعب من أى وقت مضى، هى أسهل لأننا بهذا الجهاز الذكى نشترى ونبيع ونقرأ ونلعب ونستغنى عن السينما والمسرح ونبحث عن شريك العمر، ومن خلاله نتواصل مع الأحبة فى آخر بلاد الدنيا نطمئن عليهم ويطمئنون علينا. لكن حياتنا أيضا صارت أصعب جدا لأننا بهذا الجهاز نفسه صرنا نغش ونتحايل ونُفَجّر ونكشف خبايانا والأهم أننا نفقد خاصية النطق التى اختصنا بها الله فإذا بشاشة الآيفون تسكن ضلوعنا وتتحكم فى مشاعرنا لا تكاد تعرف من منا اخترع الآخر هل نحن من صنع الجهاز أم هو الجهاز الذى يصنع انفعالاتنا، فارقد يا ستيڤ فى سلام وسنحتفل بالآيفون ٨ فى غيابك كأفضل ما يكون الاحتفال.