سياسة اليد الهادئة
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 6 يوليه 2018 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
تلك هى سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التى تواجه تحديات داخلية وأوروبية ودولية جسيمة وتسعى لإدارة شئون الحكم فى البلد الأوروبى الأهم على نحو يحفظ استقراره الاقتصادى والاجتماعى.
داخليا، تصارع ميركل من أجل بقاء الائتلاف الحاكم الذى يضم حزبها المسيحى الديمقراطى والحزب الاشتراكى الديمقراطى والحزب المسيحى الاجتماعى. خرجت ميركل وشركاؤها فى الائتلاف من الانتخابات التشريعية الأخيرة بخسائر كبيرة، وتقدمت على حساب المقاعد البرلمانية للمسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين الديمقراطيين أحزاب الخضر والأحرار الديمقراطيين وحزب اليمين المتطرف البديل لألمانيا. ولم تستطع ميركل أن تعيد تشكيل الائتلاف الحاكم وتغلق باب انتخابات تشريعية جديدة إلا بعد أن أرهقت أولا فى مفاوضات مضنية مع الخضر والأحرار الديمقراطيين هدفت لتشكيل حكومة بين المسيحى الديمقراطى والمسيحى الاجتماعى وبين الخضر والأحرار ولم تسفر عن شىء، ثم غيرت ثانيا وجهتها عائدة إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الذين أرادوا بعد خسائرهم فى الانتخابات التحول إلى مقاعد المعارضة وأرغمهم ضغط الرأى العام على قبول التفاوض مع ميركل لتشكيل حكومة.
نجحت ميركل فى إدارة مفاوضات الائتلاف الذى يجمع حزبها المسيحى الديمقراطى والحزب المسيحى الاجتماعى مع الاشتراكيين الديمقراطيين، وتحملت عبء بناء توافق حول قضايا اقتصادية واجتماعية صعبة كالمساعدات الألمانية لبلدان الاتحاد الأوروبى المأزومة اقتصاديا وكقضية اللاجئين وتوزيعهم المتوازن على بلدان الاتحاد وتحديات دمجهم داخل المجتمع الألمانى. شكلت ميركل بصعوبة الائتلاف الذى يسمونه فى ألمانيا الائتلاف الكبير، ولم تخدع الرأى العام فيما خص وجود اختلافات جوهرية بين شريكيها المسيحى الاجتماعى صاحب المواقف اليمينية المتشددة من المساعدات للبلدان الأوروبية ومن قضية اللاجئين والاشتراكى الديمقراطى الذى يحمل بقايا أجندة يسارية. وسرعان ما تفجر التنازع العلنى بين شركاء الائتلاف الحاكم على خلفية تحديد موقف قاطع من قضية اللاجئين. فأصرت قيادات المسيحى الاجتماعى، ومن بينهم وزير الداخلية هورست زيهوفر، على عدم استقبال ألمانيا لمزيد من اللاجئين وإعادة طالبى اللجوء الذين قدموا الاتحاد الأوروبى عن طريق بلدان أوروبية أخرى قبل أن يصلوا إلى ألمانيا إلى البلدان التى قدموا منها. أما الاشتراكى الديمقراطى فرفض إغلاق الحدود الألمانية فى وجه اللاجئين وتمسك بتوزيع عادل للاجئين على بلدان الاتحاد الأوروبى بحيث لا يتواصل إلقاء العبء الأكبر على البلدان المطلة على البحر المتوسط كاليونان وإيطاليا وإسبانيا.
***
تعاملت ميركل مع تنازع شركاء الائتلاف الحاكم بهدوء، ولم تندفع إلى مواقف متسرعة على الرغم من ضغط الرأى العام الذى تنظر أغلبيته إلى الائتلاف على نحو سلبى (٨٠٪ من الألمان وفقا لاستطلاعات أجريت أخيرا يشعرون بعدم الرضاء عن سياسات الائتلاف). دخلت فى مفاوضات ماراثونية مع شركائها، وتوصلت إلى توافق جوهره تفعيل إبعاد طالبى اللجوء المقيمين فى ألمانيا الذين سبق تسجيلهم فى بلدان أوروبية أخرى، وإقامة مكاتب لتسجيل اللاجئين على الحدود الألمانية وإعادة القادمين من بلدان أوروبية إلى البلدان التى قدموا منها (وفقا لاتفاقية دبلن بين دول الاتحاد الأوروبى)، وقبول تخفيف عبء الهجرة غير الشرعية والأعداد الكبيرة من اللاجئين من على كل البلدان المطلة على البحر المتوسط خاصة اليونان وإيطاليا. تفاوضت ميركل مع المسيحى الاجتماعى ثم مع الاشتراكى الديمقراطى، واستعادت ببناء التوافق شيئا من ثقة الرأى العام فى قدرتها على الحكم وإدارة شئون البلاد.
أوروبيا، تبدو ميركل اليوم محاصرة بحكومات شعبوية وبصعود اليمين المتطرف فى بلدان أوروبية عديدة. ولم يعد لها من شركاء حقيقيين داخل الاتحاد الأوروبى غير فرنسا فى ظل خروج بريطانيا وانقلاب إيطاليا باتجاه شعبوى والتشدد اليمينى للحكومة البولندية وضعف الحكومة الإسبانية. على الرغم من ذلك، استطاعت ميركل فى القمة الأخيرة لرؤساء الحكومات الأوروبية إقرار توافق جديد بشأن الهجرة غير الشرعية وقضية اللاجئين يستند من جهة إلى تنفيذ بنود اتفاقية دبلن وهو الأمر الحيوى لنجاح الحكومة الألمانية فى إعادة طالبى اللجوء المسجلين فى بلدان أخرى إلى تلك البلدان، ويقر من جهة أخرى إقامة معسكرات للمهاجرين وللاجئين فى شمال إفريقيا تشرف عليها بلدان الاتحاد الاوروبى وتعمل على الحد من موجات الهجرة غير الشرعية وموجات اللجوء إلى أوروبا بإعادة من لا تنطبق عليهم المعايير الأوروبية للحصول على حق اللجوء إلى بلدانهم فى الشرق الأوسط وإفريقيا وتسهيل التحرك إلى أوروبا لمن تنطبق عليهم المعايير مع توزيعهم المتوازن على بلدان الاتحاد.
هنا أيضا نجحت سياسة اليد الهادئة التى اتبعتها ميركل فى الوصول إلى توافق أوروبى لم يتوقعه كثيرون قبل القمة الأخيرة وتحيط بتنفيذه الكثير من الشكوك (أعلنت الحكومة البولندية على سبيل المثال رفضها لاستقبال لاجئين، ورفضت فرنسا المشاركة فى تحمل عبء موجات الهجرة غير الشرعية القادمة عبر البحر المتوسط). كذلك يبدو قبول إقامة معسكرات للمهاجرين وللاجئين فى شمال إفريقيا كتخلٍ ألمانى عن مبادئ حقوق الإنسان التى أصرت ميركل على التمسك بها حين فتحت الحدود الألمانية للاجئين السوريين فى ٢٠١٣. على الرغم من كل هذا، يحسب لميركل نجاحها فى بناء توافق أوروبى ومنعها لبروز المزيد من الصراعات بين الحكومات الأوروبية مثلما يحسب لها حمايتها للتوافق الداخلى بين شركائها فى الائتلاف الحاكم بصياغة ضمانات أوروبية له.
***
دوليا، وفى مواجهة سياسات إدارة دونالد ترامب وحروبه التجارية والصراع التجارى المتطور سريعا مع الصين وإخراجه للولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاقية المبرمة مع إيران بشأن برنامجها النووى، تتحرك ميركل وسط الكثير من القيود. لم تتورط ميركل فى صراع مباشر مع ترامب، وتسعى لإبعاد ألمانيا وبلدان الاتحاد الأوروبى عن الحروب التجارية التى يشعلها الرئيس الأمريكى، وتتحرك جماعيا مع بلدان كفرنسا واليابان وكندا لفرض شىء من العقلانية على سياسات ترامب. وميركل هنا أيضا تتصرف بمسئولية السياسيين الديمقراطيين الذين ما لبثوا يدافعون عن فرص عالمنا المعاصر فى الاستقرار والابتعاد عن الفوضى.