شرعية التدخل العسكرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 6 أغسطس 2014 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

هل نحن بصدد احتمال تدخل عسكرى اضطرارى فى ليبيا يمنع احتمالا آخر لسقوطها تحت سيطرة ميليشيات تكفيرية على نمط «داعش» فى العراق وسوريا؟

السؤال حساس وإجابته ليست يسيرة.

من حيث المبدأ العام فإن أى نظام حكم فى مصر لا يملك أن ينتظر الانهيار الليبى على حدوده الغربية ناظرا من بعيد لوقائعه ومآسيه دون أن يكون مستعدا للاحتمالات كلها وأن يتصرف بما يتفق مع سلامة أراضيه وأمنه الداخلى.

غير أن هناك فارقا جوهريا بين التدخل والتورط وبين السياسة والمقامرة، فالتدخل عمل سياسى بالقوة والتورط مقامرة بالسلاح.

التدخل العسكرى مسألة شرعية، فإن لم يستند إلى أوسع توافق وطنى ممكن يدرك الحقائق وضروراتها ويعرف حدود المهمة وأهدافها فإنه يستحيل إلى عبء ثقيل ومكلف سياسيا وأمنيا فوق طاقة تحمل المجتمع.

وفق الشرعية الدستورية فإن «رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة ولا يعلن الحرب ولا يرسل القوات المسلحة فى مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة إلا بعد أخذ رأى مجلس الدفاع الوطنى وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثى الأعضاء».

المعنى أن هناك قيودا دستورية على أية تدخلات عسكرية تتطلب توافر أغلبية كبيرة تسندها بعد مناقشات مستفيضة على مستويات مختلفة بعضها عسكرى وأمنى وبعضها الآخر برلمانى وشعبى.

النقاش العام من المتطلبات الحديثة لإرسال الجيوش خارج حدود دولها والتوافق الوطنى بأوسع معانيه ضمانة رئيسية لسد أية ثغرات مجتمعية وسياسية وأمنية تنفذ منها قوى العنف والإرهاب لتضرب داخل الحدود بينما القوات تتحرك خارجها.

المشكلة الآن فيما لو استدعت الضرورات القصوى تدخلا عسكريا أنه لا يوجد مجلس نيابى فانتخاباته المنتظرة فى الخريف.

بحسب الشرعية الدستورية فإنه: «إذا كان مجلس النواب غير قائم يجب أخذ رأى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وموافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطنى».

القيود الدستورية هنا أقل ومسئولية الرئيس أكبر، وهذه مشكلة من الصعب تجاوزها بلا نقاش عام جدى وحقيقى فى أسباب التدخل وحدوده وأهدافه وأن يكون مستندا إلى شرعيات ضرورية أخرى فوق الشرعية الدستورية.

أولى هذه الشرعيات الضرورية أن تكون هناك سلطة حكم فى ليبيا لها وضع شرعى تطلب من محيطها مساندتها عسكريا على فرض الأمن والنظام وتمكينها سياسيا فى إعادة بناء الدولة على أسس تتوافق مع تطلعات الليبيين فى الانتقال إلى العصر الحديث وقيمه الرئيسية.

إن لم يكن هناك وضع شرعى يستدعى المساندة العسكرية فالتدخل سوف ينظر إليه على أنه غزو وخرق للقانون الدولى تكاليفه السياسية باهظة.

قبل العمل العسكرى فإن الحقائق الأساسية تستدعى العمل السياسى.

هناك برلمان ليبى منتخب له وحده حق تكليف الحكومات وعزلها ورسم خطوطها العريضة.. وجلسته الافتتاحية عقدت اضطراريا فى «طبرق» لا فى العاصمة طرابلس ولا العاصمة الثانية بنى غازى اللتين تشهدان صدامات مسلحة علت حدتها مع اقتراب انعقاده حسما للصراع بالسلاح بعد الإخفاق الانتخابى للتيار الإسلامى بتنوعاته.

اختيار «طبرق» بذاته رسالة فهى على قرب شديد من الحدود المصرية.

بحسب ما تجلى فى المشهد الافتتاحى فإن هناك أوضاعا شرعية قلقة وتوجها عاما إلى حكومة توافق وطنى تخفض من احتمالات الانجراف النهائى إلى الفوضى المسلحة وتفتح المجال لإعادة بناء الدولة والحفاظ على وحدتها. هذا التوجه يصعب أن يجد طريقه للتنفيذ، فهناك تحالفات إقليمية تعرقل وتحالفات سلاح تعوق.

الحلفاء الإقليميون للتيار الإسلامى لهم حسابات ومصالح تمركزوا على أساسها فى المشهد الليبى تمويلا وتسليحا لتنظيمات وجماعات ولن يلقوا التحية قبل أن يغادروه متمنين لشعبها السلامة ولخصومهم الإقليميين طيب الإقامة.. وخريطة الميليشيات المسلحة أكثر تعقيدا من أن تنسحب منها بيسر جماعة الإخوان المسلمين وبعض حلفائها الحاليين كميليشيا «أنصار الشريعة» أقرب إلى مدرسة «القاعدة» وصيغتها «الداعشية» البازغة.

المشهد كله مدجج بالسلاح والشرعية هشة والمعنى أن العمل السياسى قبل العسكرى لكنه لا يلغى احتمالاته.

بافتراض أن الخطر الداعشى تفشى على الحدود فإن لم نتحرك لمواجهته خارجها فسوف يداهمنا داخلها على نفس السيناريو اللبنانى عند «عرسال» الحدودية اللبنانية بين جيشها وجماعات تكفيرية.. هنا لا خيار.

ظاهرة «داعش» باتت ظاهرة إقليمية تتسع باضطراد من الموصل إلى عرسال.

حازت أسلحة متقدمة وموارد مالية هائلة حصدتها من قوى إقليمية أو من غنائم السلاح واكتسبت فى الوضع العربى المنهار قدرات إضافية على الاختراق والمبادرة فى تقويض الدول وإعادة رسم الحدود بالحديد والنار وإنهاء الدولة الوطنية التى تشكلت وفق اتفاقية «سايكس بيكو» قبل نحو قرن.

سوريا تآكلت عافيتها فى حمامات دم بلا نهاية تكاد تودى بوجودها و«داعش» استولت تقريبا على ثلث أراضيها وضمت إلى «دولة خلافتها» محافظات عراقية كبيرة ولبنان تحت الخطر نفسه لكنه بدا شبه موحدا سياسيا خلف جيشه فى مواجهة الظاهرة «الداعشية» وتونس تعانى بدرجة مزعجة بما استدعى استقالة رئيس أركان جيشها على خلفية عدم تمكنه من مواجهة خطر العنف والإرهاب واليمن شبه محاصر بتنظيمات القاعدة التى تمركزت فيه وغارات «الحوثيين» على عاصمته وليبيا تدخل على خط «الدول الداعشية الفاشلة» أو إلى صوملة جديدة.

مصر بالكاد أفلتت مؤقتا من المصير المرعب وليبيا اختبار قاس.

القضية إذن عربية مثلما هى ليبية ومصرية.

هذا مدخل أساسى لشرعية ضرورية أخرى فى أى تدخل مصرى اضطرارى محتمل فوق الشرعيتين الدستورية والليبية.

بحسب المعلومات والتسريبات المتواترة فإن هناك تفاهمات مصرية جزائرية بحثت فى احتمالات التدخل الاضطرارى المتزامن من على جانبى الحدود إذا ما حدث انهيار كبير فى ليبيا.

لا يعنى ذلك أن التدخل المصرى الجزائرى بات محتما فمثل هذه الأمور لا تؤخذ بتعجل وخفة لكنه يقينا لم يعد مستبعدا.

استقبال الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى» لأمين عام الجامعة العربية «نبيل العربى» فى توقيته وسياقه وموضوع مباحثاته لا يخلو من إشارات لدور قد تلعبه المنظمة الإقليمية فى توفير الشرعية العربية لأى تدخل محتمل مستقبلى.

تحت وطأة الخطر مصريا وعربيا تتبدى بالضرورة الشرعية الدولية وتعقيداتها.

هناك أولا دول غير عربية فى الإقليم مصالحها تتصادم مع فكرة التدخل كتركيا أو لا تستريح لها كإيران أو تقلق منها كإسرائيل.. وثانيا دول أوروبية على الضفة الأخرى من المتوسط كإيطاليا وفرنسا تعنيهما ليبيا استراتيجيا واقتصاديا لا تقبل أن تتحرك قوات بأحجام كبيرة محتملة على الحدود الدولية الليبية من جانبين دون أن تكون طرفا مباشرا مع الحليف الأمريكى والشركاء الأوروبيين الآخرين وحلف «الناتو» فى القرار وما بعده.. وثالثا دول كبرى أخرى مؤثرة فى المعادلات السياسية والاقتصادية على المستوى العالمى من حجم روسيا والصين لا يمكن أن تترك مثل هذه الحوادث المحورية دون رأى ودور وإطلاع كامل على أهداف التدخل وحدوده وتوقيته.

من الأفكار التى يتبناها وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» على ما أخبر وزير الخارجية المصرى السابق «نبيل فهمى» الدعوة إلى مؤتمر دولى يعمل على تأمين ليبيا فى مواجهة الإرهاب.

هذا مسار دولى مرجح فيما لو تفاقمت الأزمة الليبية.. وهناك مسار آخر قد تأخذه الحوادث تحت وقع براكين النار من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن.

المعنى فى ذلك كله أن قرار التدخل يبدأ مصريا ويتطور عربيا إلى أن يأخذ بعده الدولى والنقاش حوله بالجدية اللازمة يضفى عليه شرعيته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved