إعادة اكتشاف الشمس
محمد المخزنجي
آخر تحديث:
الخميس 6 سبتمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى اجتماع الرئيس بالجالية المصرية فى الصين والذى حضره وفد رجال الأعمال المرافق، وقف من يتحدث عن ضرورة إنشاء المفاعل النووى لتوليد الكهرباء على أرض الضبعة لسد فجوة الطاقة المرشحة للتفاقم، ولم ينس أن يلبس المسألة النووية بالقضية الوطنية ومؤامرة رجال النظام السابق للاستحواذ على أرض الضبعة، وكان تعليق الرئيس مقتضبا إذا سأله عن تخصصه، فأفصح عن أنه دكتور فى الطاقة النووية. بعد ذلك طلب متحدث آخر الكلمة، وبدأها بإيضاح أنه سيختلف مع الدكتور المتحدث عن المفاعلات النووية، لما لهذه المفاعلات من أخطار محتملة، وأن هناك بدائل آمنة للحصول على الكهرباء من مصادر طاقة نظيفة ومتجددة لم نبذل فيها جهدا حقيقيا، وضرب مثالا بالطاقة الشمسية المزدهرة صناعتها فى الصين، وأشار إلى نموذج لمحطة شمسية صينية لتوليد الكهرباء بقدرة 1 ميجا واط ستقدمها الصين للحكومة التايلاندية لتنير قرية كاملة بتكلفة 1 مليون دولار.
من اختلاف هذين الرأيين اللذين عُرضا على الرئيس، يتبين أن تكلفة الحصول على 1 جيجا واط من الكهرباء عن طريق الطاقة الشمسية عبر النموذج الذى أشار له المتحدث = 1 مليون دولار ×1000 = 1 مليار دولار، وهذا مبلغ يساوى تقريبا (ربع) تكلفة مفاعل نووى يعطى نفس القدر من الطاقة، فالمفاعل النووى الواحد بقدرة جيجا واط يتكلف انشاؤه ليس أقل من 5 مليارات دولار، ناهيك عما يغفل المتحمسون للمحطات النووية عن تضمينه فى التكاليف الحقيقية لمجمل المنشأة النووية، من صيانة باهظة، ومعالجةودفن نفايات نووية شديدة الخطورة، ثم تكاليف تفكيك المفاعل بعد انتهاء عمره الافتراضى وتطهير موقعه وهذه وحدها تكاد تساوى تكاليف الانشاء كما حدث فى أحد المفاعلات النووية الألمانية التى تم اخراجها من الخدمة. هذا كله ولم نتحدث عن مخاطر الكوارث النووية، صغرت أو كبرت، والتى لايستطيع بشر أن يقطع بأن استبعادها صار مطلقا برغم كل ما يُزعَم من تطور فى تقنيات واجراءات الأمان فى هذه المحطات، وأقرب مثال على ذلك كارثة فوكوشيما اليابانية النووية القريبة.
فى ذلك اللقاء ببكين، أبدى الرئيس مرسى قدرا من الحصافة بالاستماع إلى الرأيين دون أن يقطع فى المسألة الكبيرة الخطيرة برأى متسرع، لكننا فوجئنا بوزير غير معنى بالموضوع فى نطاق اختصاصاته الوزارية يخرج علينا بما يوحى بأن القضية قد تم حسمها، فقد نُقل عن وزير التنمية المحلية أحمد زكى عابدين «إصرار الحكومة والقيادة السياسية على إنشاء أول محطة نووية بأى ثمن»، وقد استوقفنى تعبير «بأى ثمن» هذا، فهو ينتمى إلى مجانية خطاب حكومى فارغ كنا نظن أن زمنه قد مضى وانقضى، فالثمن الذى سيُدفع فى مشروع كهذا بكل جوانبه المهولة، لن يكون من جيب الوزير الخاص، ولا الوزارة والحكم جميعا. وهو ثمن لا يتوقف عند مجرد تكاليف الانشاء والتشغيل المُعلنة، بل يتجاوزها إلى نطاقات خطيرة ومفزعة.
الوزير عابدين كان قد شارك فى اجتماع اللجنة الوزارية للطاقة الذى عقده رئيس الوزراء للوقوف على تقرير اللجنة الهندسية حول انقطاع الكهرباء، وقد أطلق الوزير تحذيرات صحفية وتليفزيونية بأن إمكانيات مصر أصبحت محدودة من انتاج الغاز والمازوت وبعض المشتقات المستخدمة فى انتاج الطاقة الكهربائية. وقد سمعته ورأيته فى أحد البرامج التلفزيونية وهو يردد ذلك، فلماذا الآن فقط يصبح ما كنا نصدره لإسرائيل والأردن وإسبانيا من الغاز المصرى شيئا يكاد لا يُذكر كما أنبأنا عابدين. وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا «البعزقة» من القليل الذى نمتلكه. خاصة وأن هناك حديثا لوزير الاستثمار فى الوزارة الحالية حاتم صالح ينبئنا فيه بأن «الحكومة تبحث عن إمكانية الاستعانة بشركات خاصة لتأسيس محطات الكهرباء مع اتجاه لاستيراد الغاز من الخارج يهدف لتوفير الطاقة للصناعة».
المفزع فى كل هذا، حتى لو افترضنا منتهى حسن النية، هو أن آليات النظام القديم كلها لاتزال تعمل فى موضوع الطاقة كما نرى، وهو نظام كما قلت من قبل لم يكن فاسدا فقط، بل فقير الخيال وخسيس الهمة، وإذا نحينا الفساد جانبا، فإن منطق استيراد الحلول النمطية واستجلاب القروض لحل المآزق العاجلة (وصناعة الكوارث الآجلة) هو نفسه. بل يُقدَّم الآن بنوع من الاستعباط لجماهير الأمة، ومن مثال ذلك فى المشروع النووى المزعوم ما قاله المهندس محمود بلبع وزير الكهرباء بعد إعلانه أن الحكومة انتهت من جميع الدراسات الفنية والتقارير الخاصة حول إنشاء أول محطة نووية فى الضبعة وإرسال كل الدراسات والمواقف النهائية للقيادة السياسية لإصدار قرار جمهورى، فهو يضيف إلى هذا الكلام المكرور قوله إن «تكلفة المحطة النووية تصل إلى خمسة مليارات دولار ومن ضمن الشروط أن يتولى الشريك الأجنبى توفير 85% من التمويل».
استعباط فاضح فى إخفاء مجمل التكاليف الحقيقية المُنتظرة لإنشاء محطة نووية فى زمن نظنه ينبغى أن يكون جديدا بعد ثورة يناير، فبعيدا عن حساب المخاطر الجسيمة التى ينحيها بالمطلق أنصار المشروع النووى وكأنهم آلهة يضمنون المطلق، هناك حسابات إضافية وأعباء يتعمد إخفاؤها النوويون وتتعلق بالحصول على الوقود وتخصيبه ومعالجة نفاياته ودفنها الذى يمثل معضلة حتى لدى الدول النووية الكبرى، ثم تكاليف الصيانة الباهظة والمستمرة، وأخيرا تكاليف تفكيك المفاعل عند وصوله إلى سن التقاعد المُختلَف عليه. هذه كلها نفقات وأعباء من الشفافية والشرف أن توضع أمام أعين وأفهام جماهير الأمة، خاصة حال مقارنة مشروع المحطة النووية بمشاريع للطاقة البديلة كما الطاقة الشمسية. ثم إن حكاية أن الشريك الأجنبى سيوافر 85% من التمويل، فيها تدليس واضح، لأن هذه الـ85% لن تكون هدية ولا عربون محبة من هذا الشريك الأجنبى، فهى لن تكون إلا دينا يثقل ميزان مديونياتنا الخارجية التى تقصم ظهر ناتجنا القومى المتواضع، وترتهن أجيال المستقبل لتسديد ديون الأسلاف.
نحن بلد فقير ومتراجع تسوده العشوائية واللاعقلانية ويفتقد الأمن، هذا ما ينبغى أن نتصارح به بقياس كتلتنا السكانية الضخمة مقارنة بالمعمور من الأرض والمزروع منها والمتراجع من أنظمتنا التعليمية والصحية والخِدمية وغيرها، لنكف عن «مهيصة» أننا بلد غنى فى كل شىء، لأن هذه المبالغات يمكن أن تجعلنا نعمل ضد مصالحنا، فنعمى عن الأولويات ونصم آذاننا عن نداءات الحلول المبتكرة والمناسبة لبيئتنا وحياتنا ومشروعية ومعقولية الطموح. نحن بلد كبير نعم، ويمكن أن يكون مستغنيا وغنيا نعم، لكن باعتماد آليات حكم وتفكير مجتمعى مختلفة، فإذا اعترفنا بكل ذلك، سنرى بوضوح ما نحتاجه عاجلا وما نعتبره آجلا، وبنظرة واحدة ندرك أننا مسفوحون عند قاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية الأساسية المطلوب تلبيتها، وهى الأمن بشقيه الجنائى والغذائى، وبدون ذلك لن نصعد أبدا درجة أعلى من درجات الهرم المشهور فى العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية بهرم «ماسلو» للاحتياجات الإنسانية. وهذا يقودونا إلى أن المشروع القومى العاجل هو إعادة بناء وتمتين جهاز الشرطة ومَرافِقه الأمنية طبقا للقانون، وزيادة المزروع وتحسينه حتى لا نظل فضيحة الدنيا كأكبر مستورد للقمح فى العالم، بما يعنى أننا نسأل الأقارب والأباعد خبزنا كفاف يومنا. وهذا يقودنا إلى موضوع الطاقة.
نحن فقراء فى مجال الطاقة المولَّدة بإحراق الوقود الأحفورى ولدينا فجوة واضحة لم تكف عن صفعنا بوجهها السافر، لكننا بدلا من الاعتراف بذلك فى النظام السابق فتحنا بلادنا على البحرى والبهلى للصناعات الملوثة للبيئة وكثيفة الاستهلاك للطاقة التى يبعدها العالم الأنانى المتقدم عن أراضيه ويلقيها على ظهورنا وكأننا دواب مقابل القليل اليسير الذى كان معظمه يذهب إلى جيوب المحاسيب، ولو انتهجنا سبلا جديدة للتفكير والتدبير لصار ضروريا أن نعيد الحساب فى ظاهرة استفحال هذه الصناعات وإيقاف التهامها لطاقتنا المحدودة من الكهرباء أو تحميلها مسئولية ما تحرقه من طاقة، مع ترشيد الاستهلاك الترفى والسفهى، والبحث عن مصادر جديدة للطاقة لا تثقل كواهلنا ولا ترتهن المستقبل للديون والشجون. وعندما نفعل ذلك ونقر بفقرنا، سنكتشف مكامن لغنانا كنا عنها غافلين ومُستغفَلين، ولننظر:
تبعد الشمس عنا نحن البشر على الأرض بمسافة مائة وخمسين مليون كيلو متر، ومع ذلك تظل هى أكبر مصدر يزودنا بالطاقة، ونحن نقع فى الحزام الشمسى الأغنى فى العالم والذى تكفى مساحة لا تزيد على 1% من صحرائه لتزويد العالم كله بالكهرباء، وموقعنا فى هذا الحزام الشمسى يحتل مركز الأول مكرر بسطوع قدره 1200ــ1300 واط على المتر المربع فى الربيع، و1400 1500 واط على المتر المربع فى الصيف. ومن ثم نحن شديدو الثراء بالطاقة المستخرجة من مصدر كهذا، نظيف ومُستدام وآمن واقتصادى إذا نظرنا إليه فى أفق التطور المتلاحق لآليات استخلاصه، كما أن الشروط الأفضل لإقامة المحطات الشمسية العملاقة على أرضه متحققة لدينا تماما، من مساحات واسعة ومستوية توافرها الصحراء التى ينبغى أن نعيد اكتشاف كنوزها، وأسطعها: الشمس.