قاموس التابعين
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 6 سبتمبر 2024 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
مَضت الفتاةُ يتبعها كلبٌ شَريد لا يبدو أنه لها. توقَّفت قليلًا فتوقَّف معها ولما استكمَلت السَّير لم يتردَّد في مُرافقتها؛ إلى أن وَصلت مَقصدَها فاستدار على الفور وابتعد. اطمأن لأنه قد أدى واجبَه على الوَجه الأمثل؛ إذ دَرَجت على إطعامِه، والأصول التي تعرفُها الحيواناتُ وتَتبِعها هي أكثر ثباتًا ورسوخًا مما لدى كثير البشر.
* • •
التَّابع في قواميس اللغة العربية هو التالي، والفِعل تَبِع يعني لحَقَ وخَلفَ، أما المَتبوع فمفعول به. إذا تبع المَرءُ هَواه فقد انقاد له، وإذا قيل تبعًا لكذا وكيت فوفقًا لما تستلزمُ الأحوال، وكثيرًا ما تُكتَب في نهاية بعض المقالات الطويلة بالجرائد كلمة "يُتبع"؛ إشارة لتكملة وُضِعَت لضِيق المساحَة في صفحةٍ أخرى.
* • •
إذا قيل تتبَّع الأثر فالقصد أنه اقتفاه، والأثر لا يكون دومًا لمَحل الأقدام على الأرض وما تتركه من بصماتٍ فريدة؛ لكنه يتمثَّل في تفصيلاتٍ ومُفرداتٍ لا حَصرَ لها. الكتابةُ أثر، والرائحةُ أثر، والبَصمةُ والشعرةُ أيضًا أثر؛ لكل فرد ما يدلُّ عليه ويخلفُه ويثبتُ وُجودَه.
* • •
يُشار بالتبَّاع في العادة لهذا الشَّخص الذي يعملُ على عربةِ الأجرة؛ فيجمع النقودَ من الراكبين، وينادي عليهم مُعلنًا عن المَحطات التي ينتوي التوقُّف عندها أو بالقُرب منها، والكلمةُ صِيغةُ مُبالغة تليق بالوظيفةِ ذات الدوامِ الطويل. رأينا منذ أعوام احتفاءً خليعًا من بَعض وسائلِ الإعلامِ بالطبيب الذي عَجز عن توفير الحدودِ الدنيا من مُتطلَّبات المَعيشة، فعمل مُساعدًا للسائِق؛ تبَّاعًا يتدلّى نصفُه من البابِ المَفتوح، ويُمسِك في يَده بالجُنيهات المَرجوة. لم يكُن المَنظر مَبعَثَ سُرور على الإطلاق، لا لطبيعة العَمل في حدّ ذاته؛ بل لأن المُؤهل لا يتفقُ مع المِهنة ولأن سنواتِ الدراسةِ الشاقَّة أريقَت على النواصي والطُرقات.
* • •
ربما يتبع الواحد حدسَه؛ فيضع عقلَه جانبًا ويسعى وراء إحساسٍ غامِض يُلح عليه. كثيرًا ما يتحقَّقُ الحَدسُ ويقود إلى المُراد، ويبدو مِن ثمّ أكثر دِقة وصِدقًا مُقارنة بالتفكير المَنطقيّ المُجرَّد من الغَيبيات، والحقُّ أن سقوطَ المعايير الحاكمة الشفافة التي يمكن أن يبنيَ المَرءُ عليها توقُّعاته فيما يتعلق بالآتي؛ يؤدي بالتبعِيَّة إلى اختلال النتائج، ويُفسِح المَجال أمام التكهُّنات العبثية والقراراتِ الواهِية التي لا أساس لها.
* • •
جرى العرفُ أن يتبع الصَّغير خُطواتِ الأكبر منه عمرًا؛ يقلد أمه وأبيه ومُعلميه، يتجه إلى أصحابه من بعد فيأتي بمثلما يفعلون؛ فإن نمَت شخصيتُه ونضجَت سليمةً مُعافاة، استقلَّ بأفكاره وأفعاله ولم يعد في حاجة للبحث عن نموذج يَحذو حذوَه ويُحاكيه.
* • •
قد يختار المَرءُ أن يتبعَ ضميرَه أو أن يُخالفه ويَمضي في اتجاه آخر؛ وللاختيارين كليهما نتائجٌ وتبِعات. لا تقود الضَّمائر النقية إلى تحقيق المَكاسِب المَنشودة في أزمِنة الفساد، أما الضَّمائر المَعطوبة فتستجلِبُ الغنائمَ؛ لكنها تهيلُ على أصحابِها التُّراب.
* • •
في بعض الأحيان يبدو التابع قليلَ المَوهبة لا قُدرة لديه على الابتكار، وفي أحيان أخرى يلوح كسولًا عازفًا عن بذلِ الجهد، قانعًا بمَوقِع الفاعِل الذي يتلقّى الأوامر، وفي أحيان ثالثة يكون هيوبًا؛ يَخشى أن يُخالِفَ السائدَ فيتهمه الناسُ بمُحاولة الظهور وجَذب الاهتمام، أو بتهديد مَصالحهم وتشويه المظهر العام. في الأحوال الثلاث يبقى التابع مكانه دون أن يحقق إنجازًا يُذكَر؛ إذ لا فضل في تكرار ما سبق ولا تقدُّم سوى بالمُغامَرة واكتشاف الجديد.
* • •
غالبًا ما يحظى المَتبوع بشخصيَّة قوية، تكفُل له دورَ القيادة وتجعله في مَوقِع أعلى مِمَن يُحيطون به؛ لكن الصُّورةَ اللامعةَ تكون بعض المرَّات زائفةً مُصطنَعة، يُسهِم في تكوينها وإرسائها هؤلاءُ المُستفيدون من خِداع الآخرين،
• ••
في حقابٍ وَلَّت، كان العائشون في الصَّحراوات يعرفون مَواضِع النُّجوم ويَبرعون في تحديدها، يتبعونها مُهتدين بحركتها ما ارتحلوا لأسابيع وأشهر. تعاقبت الأيام وتحوَّل الناسُ إلى الاهتداء بالأجهزة الإلكترونية التي زُودت بها عرباتُهم وهواتفُهم؛ وباتوا عاجزين عن حِفظ طريقٍ ولو سَهل مُباشر، لم تعد أدمغتُهم قادرةً على رَسم خريطةٍ أو التعرُّف على مَعالم مرُّوا بها من قبل؛ فإن تعطَّلَ النظام الآليّ تعطلوا معه أو ضلّوا غاياتهم. بمرور الوقت صَدأت عقولُ التابعين وامتلأت جيوبُ المَتبوعين.
* • •
إذا قيلَ جاءت النوائبُ تباعًا فالمعنى أنها تلاحَقت وتعاقَبت؛ حتى لم تترك فَسحةً للتعافي ولم تدَع للناس فُرصةً للاستيعاب.
* • •
في السّياسة كما في سائر جَوانب الحياة؛ تابع ومَتبوع، وإذا قيل فلانٌ تابع عِلان؛ فالمعنى أنه يَقوم على خِدمته بصورة ما. بات العَربُ أغلبهم تابعين وتحوَّلت كُبرى دُول المنطقة إلى عرائس مُتحركة، أما الخيوطُ ففي قبضَة اللاعبين الأساسيين الذين يُخططون ويُدبرون بينما ينفذ تابعوهم المُراد، وإذ مثَّلت التبعيَّةُ مُصطلحًا قديمًا، ظهر في عقدِ السِتينيَّات ليدللَ على أحد أشكال الإذعان الاقتصاديّ والسياسيّ؛ فإنه لم يزَلْ لشديد الأسف صالحًا للتداول والاستخدام؛ وإن في شكلٍ جديد.