سباق على أصوات اليمين
بسمة قضماني
آخر تحديث:
الأربعاء 6 أكتوبر 2010 - 10:03 ص
بتوقيت القاهرة
يبدو أن هذا العام بالنسبة للرئيس ساركوزى هو عام حسم المشاكل المزمنة التى لم يجرؤ القادة السياسيون الذين سبقوه على التعامل معها كما يجب، حسب رأيه طبعا.
مجموعة إجراءات وقوانين جديدة أدخلتها حكومة ساركوزى تلوّح بتغيير المناخ الثقافى الديمقراطى وتنذر بانزلاق نحو ثقافة أمنية لم تكن تعرفها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية. اجراءات تستهدف المرأة المسلمة والشباب من أصول أجنبية، ومؤخرا، مجموعات الغجر الروم الذين صدر بحقهم مرسوم طرد هذا الشهر مع أمر التنفيذ الفورى.
وكان الرئيس قد أعلن منذ ثلاثة أشهر بأنه سوف يُدخل إجراء قضائيا يسمح بطرد أى مواطن فرنسى من أصل أجنبى ونزع جنسيته إذا اعتدى على شرطى. إثر ذلك، قامت احتجاجات عنيفة وتساءل البعض ماذا لو اعتدى فرنسى قح على شرطى من أصل عربى مثلا أو أفريقى؟ فمن نطرد وإلى أين؟ ثم صدر القانون بتعديل واحد يحدد إمكانية نزع الجنسية عن الممنوحين منذ أقل من عشر سنوات. وبعد جدل طال أكثر من ستة أشهر صدر مؤخرا قانون منع النقاب والذى أثار نقاشا بين الساسة وخبراء القانون شاركهم فيه رجال أمن لكى يقدموا مجموعة أسباب ثقافية واجتماعية، ما لبثوا أن أتوا بالحجة الكبرى وهى أن تغطية الوجه مسألة أمنية تعرّض البلاد للخطر.
ارتبكت الحكومة بعد أن احتجت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على قرار طرد الغجر، وهى سلطة أعلى من المحاكم الوطنية يحق لها التدخل فى شئون البلدان الأعضاء، واحتجت الأمم المتحدة والبابا شخصيا ومنظمات حقوقية عالمية على الرغم من الدفاع المستميت الذى شنّته الحكومة من خلال وزير الشئون الاوروبية وهو معروف بشراسته حيث إنه اختار الهجوم المضاد كأسلوب للدفاع عن الموقف الفرنسى، وضم ساركوزى صوته إلى صوت وزيره حينما أعلن أن المستشارة الألمانية أنجلا ميركل كانت قد اعترفت له أنها تنوى طرد مجموعات من الغجر من ألمانيا، وهذا ما أغضب المستشارة واضطرها إلى تكذيب كلام الرئيس الفرنسى. ولم يمض أسبوع على هذه السجالات حتى ظهر خطر اعتداءات إرهابية على فرنسا انتهت فعلا بخطف مواطنين فرنسيين فى إفريقيا. لم يفوّت وزير الداخلية الفرصة وراح يبرّر ضرورة التشدد الأمنى بالخطر الإرهابى على البلاد وهو غير معنى بخطورة المزج بين قضايا اجتماعية داخلية حساسة والخطر الإرهابى.
ربما تعبّر حكومة ساركوزى عن ظاهرة جديدة قد يمتد تأثيرها على نفسية وعقلية المواطنين. فرنسا بلد جميل لا يتحمل القبح. مدنها أنيقة وهناك قانون يجبر سكان المبانى على الإنفاق من مالهم الخاص لتنظيف الواجهات كل عشر سنوات للحفاظ على جمال المحيط السكنى. وفى السنوات الخمس الأخيرة بدأ عدد من محافظى المدن الكبيرة، بدءا من باريس، بتشجيع السكان على عدم استخدام السيارات وطوّروا خدمة تأجير العجلات حتى أصبح فعلا عدد كبير من السكان يستخدمون الدراجات كوسيلة تنقّل، فخف عدد السيارات وقريبا جدا سوف تبدأ شركات صناعة السيارات بتسويق السيارات الكهربائية التى لا تسبب ضجيجا ولا تلوّث على نطاق واسع. نظام، نظافة، أناقة، طبيعة خضراء، هدوء. لا شك أن كل هذه التطورات إيجابية وليس للمواطن إلا أن يرحب بها بشرط طبعا أن يكون هو نفسه عنصرا مرغوبا فيه.
فى هذه البيئة لا مكان لكل ما هو قبيح. وكلما ازداد جمال المدن كلما اشتدت المعايير.
لا مكان فى المدن الجميلة للغجر الروم الرحّل بشكلهم وملبسهم ومساكنهم وأسلوب عيشهم فهم يملأون المطارات ومحطات القطار والأماكن العامة يتسولون حاملين أطفالهم على أذرعهم وشعورهم منكوشة وأحيانا ينشلون ولا يتحدثون الفرنسية. إنه منظر مزعج حقا فما هو الحل؟ بما أن الأمن لديه مسئوليات تفوق قدراته فهو غير مستعد لمعالجة هذه المشكلة التى تتفاقم منذ بضع سنوات وحلها بشكل حاسم. فلجأت الحكومة إلى إخراج للمشكلة بصيغة معينة ومن ثم إلى تقديم الحل المناسب الجذرى لها، فذهبت إلى وصفهم بأنهم يشكّلون خطرا أمنيا وخطرا على الصحة العامة بسبب عاداتهم وأسلوب عيشهم حتى بدا الحل الطبيعى للمشكلة هو طردهم خارج حدود فرنسا. فالحكومة تتبع سياسة تطابق المقولة التى ساهم فى شهرتها الرئيس بوش «عندما تقرر أن تمسك بيدك شاكوش فكل المشاكل يصبح شكلها كالمسمار وإذا لم يكن شكلها مسمارا فمن الضرورى تغيير شكلها حتى يصبح الشاكوش هو الحل». وهى مقولة استُخدمت فى عهد الرئيس الأمريكى السابق حينما كان يهيئ لضرب العراق بعد أن قام بغزو أفغانستان.
المنطق نفسه يسود فى التعامل مع سكان ضواحى باريس من أصول أجنبية فهم لديهم مظهر وملبس ولهجة معينة حيث إن أغلبهم من أصول عربية أو إفريقية. يلقى عليهم لقب «الشباب» حتى إذا تجاوز سن الواحد منهم الثلاثين عاما لأنهم يستمرون فى نفس الوضع الذى يميّز الشباب أى أنهم يبحثون عن عمل وعن إمكانية كسب دخل يمكّنهم من الاستقلال عن أهلهم. إنها مشكلة اقتصادية اجتماعية ثقافية صعبة تواجهها غالبية الدول الغنية. وبين الحين والآخر، بعد أزمة ومواجهات، تعلن الحكومة عن نيتها أخذ إجراءات لمعالجة المشاكل التى يواجهها المواطنون من أصول أجنبية خاصة الشباب ولكن هذه النية لا تترجم على أرض الواقع لأن الحكومة لا تكرّس لا الإمكانات ولا حتى الاهتمام لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة.
كان رئيس الحكومة السابق دومينيك دو فيلبان قد سبق وأخفق فى تمرير خطة لمساعدة الشباب على الدخول إلى سوق العمل وانفجرت الصدامات فى عام 2006 لتظهر خطورة الوضع ولكن لم يتبع ذلك أى تغييرات فعلية ويبقى الشباب من أصول عربية وإفريقية يشعرون بأنهم ليسوا جزءا من النسيج الوطنى ولا قوانين تحميهم من الاضطهاد.
هؤلاء لديهم تجربة خاصة مع السلطة ومع قواها الامنية. فالشرطة هى التى تتحمل عبء التعامل مع البؤر الساخنة فى الضواحى ومواجهة كل الأمراض التى تنشب بين هؤلاء الشباب من سرقة وتجارة مخدرات وعنف وجرائم صغرى وتصبح بهذا السبب العدو الرئيسى بالنسبة للشباب.
هؤلاء يلمسون عبثية الموقف ويستفزهم استخدام الوسائل الأمنية فيذهبون إلى استفزاز الشرطة حتى أصبحت هذه الاخيرة شرسة ليس فقط لأن العنصرية متفشية فيها ولكن لأنها تجد نفسها فى موقف مستحيل وأصبحت هى نفسها تخاف من الشباب أكثر ما يخشونها هم. فمثلا أمام تجمعات الشباب فى كل منطقة يصطف رجال الشرطة كجدار رادع وكأنهم ينتظرون هجوم الشباب بل يدعونهم إليه فيخلقون جو المواجهة، تحصل أو لا تحصل لكن العلاقة أصبحت معروفة.
ذلك لأنه رغم ازدياد الضغط على الشرطة فقد قرر ساركوزى قبل صعوده إلى الرئاسة عندما كان وزيرا للداخلية أن يلغى شعبة خاصة فى قوى الأمن كان قد أنشأها سلفه الاشتراكى شوفنمان حملت اسم شرطة الجوار رغم أنها قد أثبتت فاعليتها باعتراف كل الأطراف السياسية. فبينما يثقل الحمل على أكتاف الشرطة يخفّض ساركوزى من أعدادها. ولو سأل نصيحة بعض أصدقائه من الحكام العرب لكانوا نصحوه بأن الاعتماد على قوى الأمن يحتاج إلى زيادة أعدادهم باستمرار فهم أهم من الجيوش ومن المعلمين فى المدارس.
تمتد هذه العقلية الأمنية إلى المدارس التى رأت انخفاضا فى أعداد المدرّسين فيها بسبب خطة التقشف المالى، حيث أدخل وزير التربية مجموعة من الاجراءات لضمان الأمن فيها بعد أن تفاقمت حوادث العنف فيها. يرافق ذلك إصلاحات قانونية لفرض منظومة جديدة من العقوبات كالعقوبة الأدنى وإجراءات لمعاقبة من أصحاب السوابق وهم أفضل إثبات على عدم جدوى التعامل الأمنى مع المشكلة.
هل الرئيس ساركوزى مقتنع فعلا بجدوى هذه الاستراتيجية؟ اصوات عديدة تحاول التعبير عن قلقها وترى أنه يعمل لكسب أصوات اليمين المتطرّف. والمؤشر المشجع هو فعلا احتجاج منظمات المجتمع المدنى والنقابات وأحزاب المعارضة وبعض أجهزة الإعلام وأعداد كبيرة من المثقفين والفنانين.
فقد نٌظمت مظاهرة حاشدة فى أكثر من مائة مدينة فرنسية قبل أسبوعين منفصلة تماما عن المظاهرات الاجتماعية التى ترافق الإضرابات المتكررة حاليا فى كل أنحاء البلاد وهذا دليل على حيوية المجتمع. لكن ذلك لم ينجح فى إجبار الحكومة على التراجع عن قرارها طرد الغجر الروم.
المشكلة أصبحت أن أعداد الفرنسيين المنجذبين إلى اليمين المتشدد يزداد وكأن هناك علاقة سببية بين تحسن البيئة ونوعية الحياة من ناحية واجتذاب الناخبين نحو اليمين المتطرّف من ناحية أخرى فكلما ازداد جمال المدن كلما ضعف التسامح نحو أى مشهد يختلف عن الهارمونى السائدة. شطارة الرئيس ساركوزى هى بالتحديد قدرته على فهم ما هو فى عمق هذه الفئة من المجتمع التى تتسع فى فرنسا كما فى معظم الدول الأوروبية وحتى فى السويد ويعرف أن هذه الفئة تبحث عن الخطاب السياسى الذى يقول بصوت عال ما يقولونه هم بصوت منخفض فى بيوتهم وأن يعبّر عن ذلك بخطاب مقبول أخلاقيا أى دون استخدام اللغة العنصرية التى باتت تميّز أحزاب اليمين المتطرف التقليدية.
هكذا يأمل ساركوزى الذى دخل فعليا بالحملة الانتخابية لانتخابات 2012 أن يحصد أصوات هؤلاء المستاءين من كل ما هو مختلف شكلا أو لونا أو دينا أو لهجة وأن يبنى استراتيجيته الانتخابية على هذا الانزلاق نحو أقصى اليمين.