حلب تحترق

سلام الكواكبي
سلام الكواكبي

آخر تحديث: السبت 6 أكتوبر 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

لقد سعت الممارسات الاستبدادية فى مختلف دول العالم وعلى امتداد العصور، إلى محو الذاكرة الجمعية ومحاولة ربطها بذاكرة مختارة من قبلها. ويدرك علماء الآثار فى هذه الدول حجم التوظيف السياسى لمكتشفاتهم.

 

كثير من الحقب التاريخية التى مرت بها سوريا، وهى عديدة، أهملت على حساب أخرى لأسباب سياسية داخلية أو خارجية. فعندما يكون النظام فى حالة عداء مع جواره العربى أو التركى، فهو يوجّه إلى تعزيز «الاكتشافات» التى تشير إلى حقبة ما قبل عربية أو ما قبل عثمانية. وفى حالة الغزل مع الجار التركى، توضع الحقبة العثمانية كأولوية، ويُصار إلى تلميعها وإزالة كل المعوقات التى تمنع الكشف عنها ولو لزم هذا تدمير أبنية أو تعديل فى المخططات التنظيمية للمدن. ولو كانت المرحلة تتطلب غزلا مع القوى الإسلامية، فكل ما هو لا يتعلق بهذا الإرث يصبح مهمّشا وتصبح سوريا مقصد الأنبياء والأولياء الصالحين.

 

لم تتعامل الحكومة المركزية مع الآثار بتجرّد ولم تعاملها بحيادية وطنية تجنبّها الاستغلال والاستقطاب. والمكتشفات الأثرية، وما أكثرها فى سوريا، أضحت تكاد من منجزات «الحركة التصحيحية» التى أتت بالرئيس الأسد الأب إلى الحكم سنة 1970. وإن لم يكن هذا الأمر مناسبا للاستهلاك السياسى، فيمكن أن يُهمل بالتوازى مع النهب المنظم الذى ترعاه أجهزة رسمية أو النهب العشوائى العائد إلى الإهمال والفساد الممأسس.

 

●●●

 

وفى هذا الإطار، يذكر الكثير من السوريين كيف انتزعت قطع الفسيفساء من لوحة قديمة لإعادة استخدامها فى تشكيل صورة للرئيس السورى فى مدخل متحف مدينة أبو العلاء المعري. وكذلك، فقد أقيمت محاور طرقية فى قلب المدن التاريخية ساهمت فى تعديل التركيبة الاجتماعية إضافة إلى مساهمتها فى تعزيز فرص الفساد الذى يعتبر إعادة توزيع ريعه جزءا هاما من عملية الاستقرار فى عقلية المنظومة السياسية والأمنية. وقد سبق أن عرفت مدينة حلب حقدا امتزجت فيه السلطوية بالعلاقة الإشكالية مع محيطها. فقد دمّر جزء مهم من وسطها التاريخى لصالح إقامة أبنية إدارية فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى. وقد جرى بناء مسرح أسمنتى هائل الحجم على «أوابد» مهمة فى قلب قلعتها التاريخية لإقامة مهرجانات الغناء والولاء.

 

العلاقة مع الإرث الجمعى تكاد تكون جزءا من الموقف السلطوى العام الذى يرى فى إدارته للشأن العام عملية متكاملة ومعقدة وتصل حتى لامتلاك الذاكرة المجتمعية ومحوها أو تعديلها بما تقتضى «المصلحة الوطنية».

 

وبالتالى فإن ما جرى فى الأيام الماضية فى حلب من حرقٍ للأسواق التاريخية، والتى تعتبر من أقدم «الأوابد» التى لم يمسّها تعديل أو إعادة توظيف بفضل ثقلها الاقتصادى، يترجم جزءا كبيرا مما تقدّم عن علاقة السلطة بالتراث المختزل بمنجزاتها إن وجدت. وكذلك، فإن نقص الوعى لدى جزء من الثوار إلى خطورة هذه المواجهة فى هذا المكان تحديدا، تترجم إشكالية علاقة الأطراف بالمركز.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved