گهنـوت الدولـة المصريـة
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 6 أكتوبر 2013 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
منذ أن تم الإطاحة بالرئيس السابق مرسى فى الثالث من يوليو وكلمة واحدة تتردد على مسامع الجميع، وهى أننا نستعيد «الدولة» التى كاد أن يختطفها الإخوان ويدخلوها فى غياهب مقامراتهم الإقليمية بحثا عن الخلافة المزعومة! أتفهم ذلك الشطر الثانى من العبارة السابقة فهناك بعض الدلائل عليه بالفعل، ولكنى أتساءل أى دولة استعدناها إذن من الإخوان؟ أى دولة تلك التى يدافع عنها بشدة معظم صناع القرار والنخب السياسية والإعلامية والفنية حتى أصبح جواز سفرك إلى مراكز صنع القرار وشبكات السلطة والبيزنس والإعلام أن تكون «دولاتيا» متحدثا ومدافعا ومقاتلا من أجل الدولة وكرامتها وعزتها وهويتها؟
•••
لا يبدو أن السؤال يشغل أحدا بمن فيهم الدولاتيون الجدد (وهم ليسوا بالضرورة من رجال الدولة بالمعنى السياسى التقليدى، ولكنهم مجموعة من النخب التى تصدرت المشهد وقرروا أن قضيتهم الأولى الدفاع عن الدولة واعتبارها خطا أحمر لا يقبل المساس)، ولكن المهم أن تلوك عبارة الدولة لتدغدغ مشاعر الجماهير وتحصد مباركة السلطة وصك الوطنية والشرف من الإعلام! لذلك فإذا قررت أن تكون ذلك الدولاتى، الذى يرى أن أى سياسات وقرارات وتصريحات وخطب مسموح بها بغض النظر عن عدلها أو شفافيتها أو ديموقراطيتها أو حتى منطقيتها تحت دعوى استعادة الدولة، فعليك أن تفهم فلسفة وشكل وسياسات تلك الدولة التى استعدناها منذ ٣ يوليو وحتى الآن:
أولا: قد يكون صحيحا أننا استعدنا الدولة بمفهومها القانونى التقليدى، فاستعدنا الأرض والشعب والسيادة والحدود، ولكنها استعادة شكلية، فبدون تحديد فلسفة ربط العناصر السابقة فى ظل مشروع أو على الأقل خطة لتحديد شكل العلاقات التى ستربط بين هذه المكونات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فإننا لم نفعل سوى استعادة إرث ثقيل من المشاكل الهيكلية التى ستكون قيدا وعبئا على أى حاكم قادم. وتاريخيا لم يعمل جادا لهذه الفلسفة سوى قائدين، الأول هو محمد على الذى كانت لديه خطة لبناء دولة حديثة عصرية بجيش مدرب وبيروقراطية مواكبة للعصر، ثم عبدالناصر والذى بنى مشروعا متعدد الأذرع والمستويات لبناء دولة قومية اشتراكية تلعب أدوارا إقليمية بل دولية معتبرة. وسواء أحببنا دولتى محمد على وناصر أو كرهناهما يجب أن نعترف أنهما كانتا المحاولتين الوحيدتين الجادتين فى تاريخ مصر الحديث لبناء دولة، ومنذ ١٩٧٠ وحتى اللحظة فنحن نتعامل مع شبح دولة رثة بناها عبدالناصر فتية فى خمسينيات القرن الماضى وقد شاخت فى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين (بعد ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن) بلا مشروع جديد أو فلسفة جديدة لإعادة إحيائها.
ثانيا: شبح الدولة الذى استعدناه لم يعد به أجهزة قوية سوى الأمنية منها (الجيش والداخلية والمخابرات) وحتى هذه القوة شكلية متعلقة بالسيطرة على مقدرات الأمور وعملية صنع القرار بالبلاد وتجييش السياق العام، ولا تعبر بالضرورة عن قوة مؤسسية تكفل لهذه السلطات مواجهة أى تحديات حقيقية على أمن الوطن، كما أن هذه المؤسسات يبدو أنها فى حالة صراع لتسديد فواتير قديمة أو ربما لوضع أجندة جديدة، وهو بالمناسبة صراع فى التفاصيل لا فى الفلسفة أو المشروع، فى مقابل تهافت المؤسسات السياسية وتجميدها إلى حين، وعطب الجهاز الإدارى للدولة الذى لم يعد قادرا على تنفيذ توجيهات السلطة ولا على الاستجابة لمطالب الجماهير وتحول بدوره إلى عزبة يديرها من يعرف دهاليزها فقط بلا أى شفافية أو كفاءة.
ثالثا: لم يعد هناك فى دولتنا المستعادة إطار دستورى أو قانونى واضح ومحترم، فدستور ٢٠١٢ معطل، وإعلان ٨ يوليو أضعف من أن يحكم بلد، ومشروع ٢٠١٣ مازال تحت الإنشاء والأخير مازال هشا من زاويتين: الأولى، أنه مشوش فى علاقته بدستور ٢٠١٢ بين التعديل والنسف، فإعلان ٨ يوليو يتحدث عن تعديل، بينما يتحدث عدد من أعضاء لجنة دستور ٢٠١٣ بمن فيهم رئيس اللجنة عن نسف! أما الثانية فهى أن هذا الدستور أصبح مسرحا لا لتوافق مجتمعى ولكن لصراعات مؤسسات سيادية وفئات مجتمعية للحصول على حصانات ومحاصصات بلا منطق أو فلسفة سوى تأمين الوجود والمكتسبات والاستقلالية عن المجتمع بنفس منطق العزبة القديم! وهكذا فمازالت تدار الدولة بعلاقات القوة وبثقافة الغلبة والبقاء للأقوى، لا بدساتير ولا بقوانين ولا بلوائح!
رابعا: دولتنا لديها شعب منقسم، فقطاع منه تم تجييشه وتعبئته لصالح شبح الدولة وكرامتها وحمايتها، وآخر رفع سقف توقعاته فى انتظار القائد العظيم ليحل كل المشاكل بعصاه السحرية، وثالث لا يرى فى دولته سوى أنها قاتلة وظالمة وينتظر الفرصة للانقضاض عليها، ورابع مازال يبحث عن حلمه فى عدالة وعيش وحرية وديموقراطية كما وعدته ثورة يناير وما تلاها من موجات، وخامس قرر العزلة والهجرة من ذلك الجحيم. هذه الفئات جميعا تعانى من أزمات اقتصادية طاحنة وخدمات تعليمية وصحية متدهورة، يومها عبارة عن سلسلة من الإهانات الجسدية والمعنوية المتكررة وهى جاهزة للانفجار مجددا ولكن تنتظر الفرصة!
خامسا: دولتنا بها سياق عام مجيش ومؤمم يدفع الناس دفعا للغرق فى بحور المؤامرات فيتخذون أوضاعا دفاعية طوال الوقت، ويقصم ظهر السياسى الديموقراطى لصالح الأمنى السلطوى، ويعيد إيجاد ثقافة سياسة رجعية ووعى عام مختطف أمنيا يعادى الديموقراطية والحرية والعدالة والإنسانية لصالح بناء كهنوتى سلطوى يدعى دوما معرفة بوصلة الصالح العام دون الآخرين «المغيبين» أو «المتآمرين» أو «المتأخونين» أو «المخنثين سياسيا»، وهكذا تتخفى الدولة وكهنوتها الرجعى خلف الجماهير المجيشة والدولاتيين الجدد لتحقق أهدافها فى هزيمة الإصلاحيين الديمقراطيين دون تكلفة تذكر، اللهم إلا التضحية بهذه الجماهير أو حتى بالدولاتيين أنفسهم إذا ما اقتضى الأمر!
•••
فى تقديرى أننا يجب إذن ألا نستعيد تلك الدولة أو ندافع عنها، ولكن يجب وفورا أن نتخلص منها، فما نحتاجه هو صناعة دولة جديدة بفلسفة مختلفة وهيكلة متفردة وعلاقات تقدمية لا رجعية مع المجتمع. أقول ذلك لأن ما حدث منذ ٣ يوليو وحتى الآن هو أننا لا نحن الذين استعدنا الدولة بمفهومها الوطنى ولا نحن الذين صنعنا دولة جديدة بالمفهوم السياسى، ولكننا استعدنا كياننا ضخما ورثا من المؤسسات والتقاليد والنخب والسياسات والخطب منتهية الصلاحية، قل إننا لم نستعد دولة ولكننا استعدنا كهنوت دولة هو الذى أسقط مبارك لأنه اعتقد أنه يستطيع أن يورثه، وهو نفسه الكهنوت الذى أسقط مرسى والإخوان لأنهم اعتقدوا واهمين إمكانية امتطائه لتحقيق النصر التاريخى والسيطرة على مقدرات الأمور وأستاذية العالم، وهو بالمناسبة نفس الكهنوت الذى سيكون مقبرة لهذا الطابور الجديد من الدولاتيين الحاليين الذين يتوهمون الدفاع عن الدولة وكرامتها وعزتها وسيادتها بسياسات قمعية واستثنائية (لعل آخرها سن مشروع قانون يعاقب من لا يقف أثناء عزف النشيد الوطنى بالحبس أو الغرامة)، وهم فى واقع الأمر لا يدافعون سوى عن هياكلها الفاسدة ومؤسساتها المهترئة وسياساتها العطبة وكهنوتها المقدس الذى سيسقطهم جميعا حتما يوما ما داموا قد عجزوا عن فهم الطبيعة المعقدة للواقع الجديد ولم يكونوا على قدر اللحظة فى تحقيق مصالحة وطنية شاملة هى جزء من فلسفة أعم ومشروع أشمل لإعادة تركيبها وتوزيع الثروات بداخلها من أجل مستقبل أفضل.