فقراء العالم قادمون

فاروق جويدة
فاروق جويدة

آخر تحديث: الأحد 6 نوفمبر 2011 - 12:00 م بتوقيت القاهرة

عدد كبير من السياسيين والخبراء فى العالم يتحدثون الآن عن اثر الثورات العربية على ما يحدث فى أمريكا وأوروبا من انتفاضات شعبية مازالت حتى الآن فى بدايتها وأن حملت الكثير من المفاجآت للنظم الحاكمة فى العالم المتقدم.. كان الغرب يعتقد دائما أنه أبعد ما يكون عن انتفاضات وثورات الشعوب بعد أن استقر لديه إيمان عميق بأن الديمقراطية تستطيع أن تحل له كل مشاكل وأزمات الشعوب وأن الحديث عن حقوق الإنسان وما وصلت إليه هذه المجتمعات من مظاهر الرخاء والتقدم والعدالة يعتبر كافيا.. كان الغرب يعتقد أن الحريات التى وصل إليها المواطنون فى هذه الدول هى مفتاح الأمان وتعويذة الاستقرار.

 

ويبدو أن الصورة تغيرت تماما وأن الغرب يواجه بالفعل تحديات كثيرة وان النظم الحاكمة فى هذه الدول عليها أن تعيد حساباتها بعيدا عن تلك المسكنات التى استخدمتها هذه النظم فترات طويلة.

 

فى أسابيع قليلة انطلقت أكثر من ألف مظاهرة صاخبة فى أكثر من 80 دولة كانت جميعها تتحدث عن الفقراء والمهمشين والبطالة والأسعار والتأمين الصحى وأعباء المعيشة وقبل هذا كله كانت تتهم الرأسمالية المتوحشة بأنها أهدرت حقوق المواطنين البسطاء.. فى مركز الاقتصاد العالمى فى وول ستريت قلب الرأسمالية العالمية انطلقت مظاهرة صاخبة تندد بالرأسمالية فى أمريكا حيث يوجد المركز الرئيسى الذى يحرك كل قواعد الرأسمالية العالمية فى كل بلاد العالم.

 

فى أمريكا أكبر عدد من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وكل شركة منها تعتبر دولة كاملة السيادة والصلاحيات.. إنها شركات جبارة تستطيع أن تحرك الاقتصاد العالمى وتسير به فى أى اتجاه وهى تقرر مصير دول وحكومات.

 

فى أمريكا أكبر شركات البترول إنتاجا وتسويقا واستهلاكا.. وفى أمريكا أيضا أكبر قلاع إنتاج السلاح فى العالم.. وفيها أهم مصادر التكنولوجيا العالمية أكبر ثورة عرفها العقل البشرى فى العصر الحديث.. وبجانب أن أمريكا تمثل القوة العسكرية الأولى والقوة السياسية المسيطرة على مقادير الكون حتى الآن.. إلا أن هذا الكيان الضخم اهتز كثيرا بسبب مظاهرات واحتجاجات وول ستريت ولعل السبب فى ذلك أن هذه الاحتجاجات طرحت سؤالا ملحا وهو إلى أين تمضى أمريكا.. وبمعنى أخر.. ما هو مستقبل الرأسمالية العالمية؟..

 

مازالت أمريكا حتى الآن تحتل الصدارة فى قائمة الاقتصاد العالمى.. ورغم هذا الثراء والغنى الظاهرى الفاحش إلا أن المجتمع الأمريكى يعانى خللا رهيبا على المستويين الاجتماعى والإنسانى.. وفى المجتمع الأمريكى توجد تناقضات كثيرة هناك شركات تحقق أرباحا تتجاوز 30 و40 مليار دولار سنويا وفيها أيضا 40 مليون مواطن تحت خط الفقر.. وفى الوقت الذى تقرر فيه الحكومة الأمريكية 500 مليار دولار لوزارة الدفاع لكى تحارب فى العراق وتقتل فى أفغانستان فإن فى أمريكا ما يقرب من 50 مليون إنسان لا يتمتعون بالتأمين الصحى.. وإذا كانت أمريكا تصدر كميات من السلاح إلى دول العالم بمليارات الدولارات فإن فيها ملايين العاطلين الذين تطاردهم جيوش البطالة كل يوم.

 

قلت: إن أمريكا بلد التناقضات فى كل شىء.. فهى الأغنى فى الموارد والأفقر فى العدالة.. وهى الأقوى فى الحروب والمعارك والأسوأ فى انتهاك حقوق الشعوب ومن هنا يتوقع الخبراء الكثير من الأزمات فى الشارع الأمريكى أمام اختلال منظومة العدالة فى ظل الرأسمالية المتوحشة ومن هنا جاء تدفق المظاهرات التى يشهدها الشارع الأمريكى الآن.

 

لاشك أن أصداء الثورة المصرية قد وصلت إلى الشارع الأمريكى.. وأن صورة ميدان التحرير والملايين التى خرجت تطالب بالعدالة والحياة الكريمة لم تكن بعيدة عن خيال وفكر المواطن الأمريكى.. إن الفضائيات الأمريكية التى نقلت أحداث 18 يوما قضاها الشعب المصرى بالملايين فى ميدان التحرير كانت أول صرخة وجدت صداها لدى ملايين الفقراء فى المجتمع الأمريكى.

 

إن صورة محمد بن عزيزة الشاب التونسى الذى أحرق نفسه رافضا البطالة والفقر وسفه الحكام كانت رسالة إلى ملايين الشباب فى أمريكا الذين يعانون نفس الظروف المعيشية وان اختلفت درجة المعاناة.

 

ومن هنا فإن الأحداث ترجح الآن أن تشهد أمريكا انتفاضة أكبر وأن ما حدث فى وول ستريت قد انتقل إلى الأسواق المالية فى فرانكفورت وبون وباريس وروما واتينا وعشرات من العواصم الأوروبية التى اجتاحتها المظاهرات فى الأسابيع الماضية وهى تعلن للغرب أن الفقراء قادمون.

 

لقد شهد العالم فى السنوات الماضية أزمات اقتصادية حادة دفع ثمنها الفقراء والبسطاء والمهمشون من المواطنين فى هذه الدول.

 

كانت البورصات العالمية قد اندفعت فى سباق الخسائر حتى وصلت إلى القاع وكان الرصيد الأكبر فيها هى ودائع الفقراء والطبقة المتوسطة.. لقد شهدت البورصات العالمية عمليات تحايل ونصب وتضليل فى المضاربات والبيع والشراء وخسرت هذه الاسواق بلايين الدولارات.. وعلى سبيل المثال فإن أسهم شركات التكنولوجيا قد حققت أرباحا خيالية للرأسماليين الكبار ثم انهارت لتأخذ معها مدخرات ملايين الفقراء.. من يصدق مثلا ان سهم شركة جوجل بدأ بسعر 80 دولارا ليصل إلى أكثر من 550 دولارا فى أقل من خمس سنوات وأن سعر سهم ياهوو وصل يوما إلى أكثر من 400 دولار لينخفض بعد ذلك ويصل إلى اقل من 10 دولارات.. ومن يصدق أن سعر سهم شركة كوالكوم وصل يوما إلى 750 دولارا ليثبت بعد ذلك على 40 دولارا.. هناك شركات للتكنولوجيا والاتصالات مثل وورلدكم أفلست تماما وضاعت على المساهمين أموالهم ومدخراتهم.. كانت وراء هذه المضاربات والخسائر عصابات مالية من الرأسماليين الكبار الذين نهبوا ثروات الشعوب.

 

ومع حروب البورصات كانت حرب العملات الرئيسية ما بين الدولار واليورو والين وفيها أيضا ضاعت مدخرات ملايين البشر.. شاهدت يوما على إحدى الفضائيات العالمية صورة رجل عجوز يقوم بتوزيع منشورات أمام أحد المحال للترويج لما يقدمه المحل من السلع للزبائن. وحكى الرجل قصته وأنه خرج إلى المعاش منذ سنوات وأودع فى أحد البنوك ما جمعه من مدخرات ومكافأة نهاية الخدمة وأن البنك أفلس واغلق أبوابه وضاعت تحويشة العمر على الرجل فاضطر لأن يقف أمام هذا المحل ويعمل مقابل عشرة دولارات فى اليوم يغطى بها شيئا من نفقاته.

 

إن قصة انهيار البنوك العالمية واحدة من المآسى التى تتحمل مسئوليتها نظم الحكم فى أمريكا وأوروبا ومجموعة رجال الأعمال اللصوص الذين نهبوا ودائع الناس وسرقوا أموالهم.. لقد أفلس عدد كبير من البنوك الأمريكية بينما انخفضت أسعار أسهم عشرات البنوك الأخرى حتى إن سعر سهم أكبر بنوك أمريكا وهو بنك أوف أمريكا وصل الآن إلى 6 دولارات فقط للسهم..

 

لقد انتقلت عدوى ما حدث فى أمريكا إلى دول أوروبا فكانت موجات الخراب التى لحقت بالاقتصاد الاوروبى وشمل ذلك إفلاس البنوك وانهيار البورصات العالمية وتراجع أسعار الاسهم بصورة رهيبة ثم جاء تسريح العمال ووقف الإنتاج وإعلان حالات الإفلاس كما حدث فى اليونان وإيطاليا وإسبانيا وهناك قائمة أخرى سوف تلحق بهذه الدول.

 

لم تتوقف الانهيارات الاقتصادية على قلعة الاقتصاد العالمى فى وول ستريت بل إنها امتدت إلى عواصم أوروبية كبرى تواجه الآن تحديات ضخمة أمام شعوبها.

 

فى لحظة ما من التاريخ الحديث انهارت إمبراطورية الاشتراكية فى الاتحاد السوفييتى وتفككت إلى دول ودويلات وكان السبب فى ذلك هو فساد الإدارة وسقوط النظرية وانحدار أخلاقيات القائمين عليها وبعد أن كانت الاشتراكية تمثل الحلم لشعوب كثيرة تبحث عن العدالة ضاع الحلم وسقطت التجربة وانهارت الإمبراطورية العظمى ودخلت سردايب الذكريات.

 

والآن تواجه الرأسمالية العالمية اختبارات قاسية أمام شعوبها فقد سرق الرأسماليون الكبار أموال العالم من البترول وتجارة السلاح والتكنولوجيا وأوهام العولمة وأحاديث كثيرة عن حقوق الإنسان والديمقراطية والعمل والمستقبل.. ولكن جيوش الرأسمالية اقتحمت بيوت الفقراء وأصبح العالم يعانى ظروفا حياتية صعبة أمام الحروب والقتل والاستغلال والدمار.. فى العالم الآن أكثر من مليار و300 مليون إنسان لا يجدون الطعام.. لقد خصصت الميزانية الأمريكية 500 مليار دولار للدفاع والحروب وهذا المبلغ يزيد كثيرا عن ميزانيات 41 دولة أفريقية لا تتجاوز ميزانياتها مجتمعة 300 مليار دولار فى حين أن 19% من أطفال أفريقيا يموتون بسبب سوء التغذية.

 

إذا كانت ثورات الربيع العربى قد اجتاحت معاقل الطغاة من الحكام الذين نهبوا ثروات شعوبهم بالقهر والاستبداد فإن مظاهرات الشارع الاوروبى الامريكى التى تندفع الآن وهى تطالب بحياة كريمة أمام الرأسمالية الغاشمة المتوحشة فإن على العالم أن يستعد من الآن لعودة الفقراء ونرجو أن تكون عودة مسالمة..

 

إن ما حدث فى أسواق المال والبورصات العالمية والبنوك فى الغرب فى السنوات الماضية يمثل واحدة من أكبر جرائم النهب فى العصر الحديث وللأسف الشديد إذا كان الاستعمار القديم قد بدد ثروات الشعوب فإن الخراب الاقتصادى الذى حدث لهذه الشعوب كان استعمارا من نوع جديد لقد أفسد حياة الفقراء والبسطاء فى العالم من أجل مصالح عدد من الأشخاص..

 

لقد نهب حكام العالم النامى ثروات الشعوب الفقيرة.. ونهبت الرأسمالية المتوحشة أموال الدول الغنية والآن أصبح على العالم كل العالم أن يتخلص من ظلم الحكام الطغاة.. وأن يواجه استغلال رءوس الأموال لكى يوفر لشعوب العالم حياة كريمة بلا فقر ولا طغيان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved