المقاهى والمطاعم وقرض الصندوق والدورى العام
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 6 نوفمبر 2012 - 8:35 ص
بتوقيت القاهرة
حتى لحظة كتابة هذه السطور ما زلت عاجزا عن فهم ما انتهى إليه القرار الحكومى بشأن مواعيد غلق المحال التجارية. الحكومة تؤكد أن القرار قائم ولم يتم إلغاؤه أو تعديله. والمحال التى مررت عليها مساء يوم السبت، يوم تنفيذ القرار، كانت كلها مفتوحة ولا يبدو أن الموضوع يشغلها أصلا. ومعظم الأحزاب والقوى السياسية أعلن اعتراضه على القرار وتضامنه مع أصحاب المحال والمقاهى والمطاعم والعاملين فيها، بما فيها حزب الحرية والعدالة بحسب المنشور فى الصحف. فإذا كانت الأحزاب كلها ــ ومعها حزب الحكومة ــ ضد قرار غلق المحال، فمن يؤيده إذن؟
مع ذلك فإن ما يبعث على القلق ليس الخلاف على مواعيد غلق المحال فى حد ذاته، فمزاياه معروفة وعيوبه معروفة أيضا. مزاياه هى توفير الطاقة والحد من الاستهلاك وتخفيف الضغط المرورى وهو على أى حال النظام المعمول به فى كل بلدان العالم ولابد أن لها حكمة فى ذلك. ولكن عيوبه لا يمكن تجاهلها أيضا وهى تفوق فى الظروف الحالية مزاياه، إذ يترتب على تنفيذ القرار تهديد مباشر لدخل ومعيشة مئات الآلاف ممن يعملون فى المقاهى والمحال والمطاعم والخدمات التى اعتادت المداومة حتى ساعات الفجر وعلى تشغيل ورديتين وأحيانا ثلاث. ولذلك فطبيعى أن للقرار من يؤيده ومن يعارضه. وفى تقديرى أن قرار الغلق فى مواعيد محددة قرار صائب فى حد ذاته، ولكنه جاء فى توقيت غير مناسب وكان يجب أن يصاحبه تطبيق سياسة متكاملة لتوفير فرص عمل بديلة وإعادة ترتيب أوضاع أصحاب المحال والعاملين فيها وتخفيض النفقات المفروضة عليهم، ولو تراخى تطبيق القرار عاما أو عامين.
القضية الأخطر أن موضوع مواعيد غلق المحال تحول إلى مثال صارخ على صعوبة اتخاذ أى قرار فى الظروف الحالية للبلد، من غلق المقاهى، إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى، إلى ترشيد دعم الطاقة، إلى إقامة الدورى العام، مرورا بكل كبيرة أخرى وصغيرة. القضية هى كيف يمكن لأى حزب وأى حكومة وأى رئيس أن يدير البلد فى ظروف غير واضح فيها من يتخذ القرار، ومن ينفذه، ومن يتحمل مسئوليته، وما رأى الناس فيه.
الأزمة التى يواجهها البلد هى أزمة فى الحكم وفى اتخاذ القرار. ليس الحكم الرشيد هو اتخاذ قرارات تسعد الجميع أو تحقق مصالحهم بنفس القدر وإلا لكان أمرا سهلا. الحكم السليم هو اختيار البديل الأفضل من بين بدائل عديدة، لكل منها عيوبه ومزياه، ويترتب على كل قرار فيها خسارة فئة فى المجتمع ومكسب فئة أخرى. على من يحكم أن يختار وأن يفاضل وأن يضحى ببعض المكاسب وأن يغضب بعض فئات المجتمع طالما أنه يحقق الصالح العام للبلد وينتصر لمن يستحقون الحماية أكثر من غيرهم. والاختيار لا يكون محايدا أبدا، بل لابد أن ينطوى على انحيازات ثقافية واجتماعية وطبقية لدى متخذى القرار وأن يعبر عن رؤيتهم لمسار التنمية الذى ينبغى على البلد أن يسلكه. هل تنهض الصناعة على أكتاف الصناعات الاستراتيجية الكبرى أم تكون الصناعات الصغيرة هى قاطرة النمو؟ هل تكون الأولوية لتنمية المناطق النائية والفقيرة لرفع مستوى معيشة المواطنين أم يتم توجيه الموارد لتنمية المناطق السياحية والساحلية التى تجذب السائحين والعملة الصعبة؟ هل تكون الأولوية فى الانفاق على بناء المزيد من المدارس فى القرى والنجوع أم الارتفاع بمستوى التعليم الجامعى؟ لا يوجد قرار محايد فى كل مما سبق بل اختيارات صعبة لكل منها مزاياه وعيوبه ويعبر كل منها أيضا عن انحياز فكرى ولو لم يكن ظاهرا.
هذا وضع طبيعى فى كل بلدان العالم، ولكن ما يجعله يصل إلى حد الأزمة عندنا حتى مع أبسط القرارات هو غياب الآليات المعروفة للمفاضلة بين القرارات المختلفة ولمشاركة المجتمع فى تحديد الأولويات. الطبيعى أن يكون هناك برلمان منتخب يمكنه التصويت على القوانين بما يعبر بوضوح عن رأى من انتخبوا الأغلبية، وأن توجد مجالس محلية منتخبة تستجيب لطلبات وشكاوى المواطنين أو تسعى لذلك، وقانون يقوم على تطبيقه جهاز الشرطة ويسهر على حمايته الجهاز القضائى، وحزب حاكم يأخذ القرارات التى تحلو له ثم يكافئه أو يعاقبه الناخبون فى الانتخابات التالية، واستطلاعات للرأى تشير إلى الاتجاه العام لمزاج المواطنين، ونقابات تعبر عن العاملين وجمعيات رجال أعمال تدافع عن مصالحهم، ومجتمع مدنى يسهر على حماية الضعفاء، وموازنة عامة متاحة للجميع وسهلة الفهم والقراءة والاستيعاب لأنها التعبير الأكثر وضوحا على اختيارات وانحيازات الحكومة. أزمتنا أن هذه البنى المؤسسية التى تنهض عليها الديمقراطية الحديثة لم يتم بناؤها بعد. فلا يوجد برلمان، ولا مجالس محلية، والشرطة يعاد تأهيلها، والقضاء محروم من الموارد، والنقابات المستقلة لم يتم انتخابها بعد، ورئيس الجمهورية يحكم وحده، واستطلاعات الرأى غير معروفة، أما الموازنة العامة فلغز لا يملك فك أسراره وطلاسمه إلا كبار كهنة وزارة المالية.
لا عجب إذن أن تكون هناك صعوبة فى اتخاذ كل قرار، وسوف يستمر هذا الحال ما لم تسع الحكومة سريعا ــ وما لم نساعدها ــ على بناء قنوات واضحة لمشاركة القوى السياسية كلها فى اتخاذ القرارات الكبرى، ولاستطلاع رأى الناس، ولنشر المعلومات الكاملة حول الموضوع محل النظر، ولتقدير مزاياه وعيوبه بشفافية، ولتحديد أولويات يلتف حولها الناس بدلا من تركهم يتصارعون على كل صغيرة وكبيرة. بدون هذه القنوات، فسوف تستمر حالة الشلل الحكومى، وسوف يكون متخذ القرار فى نهاية الأمر لا الرئيس ولا الحكومة ولا الحزب، بل صاحب الصوت الأعلى والعضلات الأكبر.