عودة لولا.. إشارات ورسائل
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 6 نوفمبر 2022 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
«نريد الكتب بدلا من البنادق.. نريد استعادة الأمل».
هكذا تحدث الرئيس البرازيلى المنتخب «لويس إيناسيو لولا دا سيلفا» فى خطاب النصر.
كانت تلك إشارة لعمق الانقسام الاجتماعى والسياسى الحاد فى بلد مترامى الأطراف وكتلته السكانية تتجاوز المائتى مليون نسمة.
فى لحظة انتشاء الفوز تبدت أمامه منزلقات ومخاطر، فهو ربح الانتخابات بفارق أقل من (1%) فيما خصومه السياسيون حازوا الأغلبية التشريعية.
«نحتاج إلى السلام والوحدة».
كانت تلك إشارة أخرى إلى ما يعتقد أنها من مقومات أى نجاح فى إدارة شئون البلاد، حتى تعود من جديد إلى الساحة الدولية لاعبا فاعلا ومؤثرا، ألا تكون منبوذة بالصورة التى كانت عليها فى عهد الرئيس المنتهية ولايته «جايير بولسونارو»، الذى خسر الانتخابات أمامه.
بتجربته العريضة، حيث تولى رئاسة البرازيل لدورتين بين عامى (2003 ــ 2010)، فهو يدرك معانى الأرقام ورسائلها.
نحن أمام رأى عام منقسم ونجاحه فى الحكم قد لا يكون مؤكدا إذا أفلت الأمن عن كل قيد واستغرقت طاقة البلد فى صراعات داخلية.
هو رجل ينحاز تماما إلى الفقراء الذين خرج من بين صفوفهم.
عمل لفترة ماسحا للأحذية ولم يتنكر لأصله الاجتماعى فى أية لحظة.
أحدث نقلة كبرى فى اقتصاد بلاده ومستويات معيشة مواطنيها مكنته من أن يجدد رئاسته لمرة ثانية بأغلبية (60%).
فى خطاب النصر أعاد التزامه بقضية العدل الاجتماعى، صلب شرعية انتخابه: «الشعب يريد أن يأكل بشكل جيد، أن يحصل على وظيفة وراتب يتم تعديله وفق نسب التضخم، وأن يحظى بصحة وتعليم جيدين».
كانت عودة «لولاى»، كما فى صعوده، تعبيرا عن أحوال القارة اللاتينية.
لم يكن وحده فى رحلة الصعود، فقد صاحبه بتوقيت متزامن صعود يسارى فى الأرجنتين، تشيلى، وأورجواى، وبوليفيا، والأكوادور، وفنزويلا.
كان ذلك فى توقيته ورسائله تعبيرا عن تحولات عميقة عنوانها الرئيسى: التحول التدريجى البطيء الراسخ من حرب العصابات إلى الدولة الديمقراطية الحديثة طلبا للعدل الاجتماعى واستقلال القرار الوطنى بعيدا عن الهيمنة الأمريكية على مقادير القارة.
حرب العصابات استدعتها الأنظمة الفاشية؛ حيث تسحق حياة مواطنيها إلى حدود الإلغاء بأثر الفقر والعوز والتهميش.
عندما تهيأت الوسائل الديمقراطية نحيت البنادق جانبا وبدا أن هناك أملا فى مستقبل آخر عبر صناديق الاقتراع.
هكذا تمكن اليسار اللاتينى من حصد السلطة فى دول عديدة بتوقيت متزامن.
ألهمت الثورة الكوبية حرب العصابات فى أنحاء القارة، وكانت أكثر تجاربها نجاحا بفضل رمزيها الكبيرين «فيدل كاسترو» و«تشى جيفارا».
فى لحظات تالية بدت التجربة الكوبية نموذجا للتطور التقنى والعلمى والطبى، غير أن التطورات التى جرت فى بنية القارة تجاوزت فعل السلاح إلى طلب الديمقراطية ومازجتها مع العدالة الاجتماعية.
كان طلب الخروج من التبعية الأمريكية أكثر الأفكار هيمنة على الفكرين السياسى والاقتصادى اللاتينى.
لم تكن مصادفة أن تعود أغلب إسهامات «نظريات التبعية»، التى سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة إلى اقتصاديين لاتينيين.
كانوا كبلدانهم وأدبائهم مسكونين بوطأة الانقلابات العسكرية، التى ترعاها الاستخبارات الأمريكية، وما ترتكبه من مجازر دموية كالتى حدثت فى «تشيلى» على يد الجنرال «أوجستو بينوشيه» ضد أنصار الرئيس «سلفادور الليندى»، أو بالنهب المنظم الذى ترتكبه الشركات الدولية بالتعاون مع شبكة فساد تتحكم فى مقاليد السلطة.
بأية مراجعة جدية للتجارب اليسارية اللاتينية فى موجتها الديمقراطية الأولى فإن «لولا» هو العنوان الأول فى إحداث اختراقات حقيقية بالاقتصاد والمجتمع.
تجربته بإنجازاتها بدت ملهمة لدول عديدة أخرى بأنحاء العالم، لا فى القارة وحدها، حتى إن صحيفة «لوموند» الفرنسية اختارته عام (2009) شخصية العام قبل أن تعتبره مجلة «التايم» الأمريكية فى العام التالى بالزعيم الأكثر تأثيرا فى العالم.
جرت مطاردة صورته وهو خارج السلطة بالتشهير المنهجى.
أطيحت نائبته السابقة وخليفته على المقعد الرئاسى «ديلما روسيف» بتهمة الفساد، ثم امتدت الاتهامات إليه شخصيا.
جرى اعتقاله والزج به خلف جدران السجون بالتهمة المشينة، حتى لا يترشح مرة أخرى.
عندما برأته المحاكم البرازيلية تمكن من أن يحصد نصرا انتخابيا رغم كل الظروف المعاكسة.
لم يكن صعوده مجددا إلى رئاسة البرازيل منعزلا عما يجرى فى القارة من تحولات وما يصدر عنها من رسائل إلى المستقبل.
بتوقيت متقارب حدث صعود مماثل فى هندوراس، وكولومبيا، وتأكدت من جديد قوة اليسار فى تشيلى وفنزويلا ورد اعتبار تجربة «موراليس» فى بوليفيا بعدما جرى الانقلاب عليه.
صعود اليسار جرى هذه المرة على خلفية فشل النظم اليمينية الذريع فى مواجهة الجائحة وتعاظم معدلات الفقر والعوز.
فى حالة البرازيل بالذات تراجعت مكانتها الدولية بفداحة.
كانت سياسات «بولسونارو» المعادية لسلامة البيئة فى غابات «الأمازون» داعية بذاتها إلى شبه عزلة دولية.
لم يكن مستغربا الترحيب الدولى الواسع بفوز «لولا»، فهو ينتمى إلى التيار الواسع للحفاظ على الحياة فى الكوكب عكس «بولسونارو» منافسه اليمينى الموالى للغرب فى نسخته الترامبية!، كأنه توأم سياسى للرئيس الأمريكى السابق.
كانت معالجة الرئيس المنتهية ولايته لجائحة «كورونا» كارثية بكل معنى صحى، أو سياسى بصورة تشبه إلى حد كبير سياسات «دونالد ترامب».
كانت العواقب واحدة فى الحالتين بخسارة الانتخابات الرئاسية.
فى لحظة إعلان النتائج أطل «شبح ترامب» على المشهد البرازيلى.
أغلق أنصار «بولسونارو» بشاحنات الطرق السريعة فى أنحاء البلاد لتعطيل حركة الحياة وإشاعة الفوضى تشكيكا فى نظام التصويت الإلكترونى!
الحجج نفسها استند إليها أنصار «ترامب» فى اجتياح مبنى «الكابيتول».
بقوة التجربة الديمقراطية الماثلة فى الأذهان توقفت القصة فى منتصف الطريق.
كان ذلك انتصارا للديمقراطية فى القارة وتأكيدا على مسار المستقبل.
لا عدالة اجتماعية مستدامة بلا ديمقراطية حقيقية وحريات عامة وتبادل للسلطة وفق قواعد راسخة لا تقبل التسويف والتلاعب.
هذه الرسالة الكبرى فى عودة «لولا» وصعود اليسار اللاتينى مجددا.