ضغوط ديليسبس فى بورسعيد
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 6 ديسمبر 2021 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
المدن ليست حواضر تضم مبانى وميادين فقط، لكنها ترجمة عملية لطبيعة السكان الذين يتجولون فى شوارعها آناء الليل وكل النهار، ومن ملامح وسمات البشر التى تكونت عبر السنين تتشكل أرواح المدن وتصير لكل واحدة منها بصمتها، وشفرتها الخاصة، التى تميزها عن المدن الأخرى وإن تشابهت فى النشأة والتكوين.
بروح شفيفة وعزيمة قدت من صلد، وفولاذ مصقول، خرجت إلى الوجود بورسعيد التى تحتفل هذا الشهر بعيدها القومى، كالنسر الحامى وهو يفرد جناحيه على المدخل الشمالى لقناة السويس التى حفرها المصريون بعرقهم ودمائهم، وقدموها «هدية للعالم» لتربط الشرق بالغرب، باعتبارها كائنا اقتصاديا يمشى على الماء.
أجمل ما فى بورسعيد أبناؤها الذين يكافحون بشرف وإباء من أجل لقمة عيش تخرج من البحر تارة، ومن الأرض تارة أخرى، على وقع نغمات السمسمية التى تضفى على مدينتهم طابعها المحبب، فيما لكنتهم المميزة فى الحديث تدخل إلى القلوب فرحة وبهجة قلما تلمسها إلا فى القليل من المدن.. هكذا هى المدينة الباسلة التى دفعت حصتها من النضال الوطنى، ولم تبخل بالغالى والنفيس من أجل مصر فى العديد من المعارك.
قبل أيام قادتنى قدماى إلى زيارة بورسعيد ضمن رحلة نظمتها جمعية خريجى الإعلام التى يترأسها الدكتور حسن عماد مكاوى، وضمت كوكبة من الصحفيين والإعلاميين، على رأسهم الدكتورة لمياء محمود رئيس شبكة إذاعة «صوت العرب» والمستشار الإعلامى عبدالعظيم صدقى، وكانت فرصة للاطلاع على وقع الحياة فى مدينة مصرية تعرف التغيير كل يوم، واختتمت بلقاء، غير مرتب مسبقا، مع محافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان فى ديوان عام المحافظة.
فى اللقاء الذى اتسم بالود، بدا اللواء الغضبان عاتبا على الإعلام الذى لا يعطى الاهتمام الكافى لـ«الإنجازات التى تحققت فى المحافظة»، وعرض على الحاضرين فيلمين يوثقان لما يتم من مشروعات عمرانية واستثمارية على أرض بورسعيد.. ولأنى كنت قد وقفت تحت قاعدة تمثال ديليسبس خلال جولة حرة قبل اللقاء، كان حاضرا فى ذهنى الحديث الذى عاد ليتردد من جديد عن إعادة التمثال إلى قاعدته عند مدخل القناة بعد أن تم نقله إلى الاسماعيلية.
سألت اللواء الغضبان مباشرة: هل هناك نية لإعادة تمثال ديليسبس، أم أن الملف قد تم إغلاقه؟ رد السيد المحافظ اقتصر على كلمات محدودة «الملف أغلق، لكنها مطالبات شعبية»، لم يكن اللقاء يتسع للجدل بشأن تلك المطالبات الشعبية ومن هم أصحابها، لكننى عدت إلى الدكتور أحمد الصاوى أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، وأحد أبناء بورسعيد الذين قادوا حملة لمنع عودة ديليسبس إلى قاعدته مرة أخرى، وسألته عن طبيعة تلك المطالبات..
يقول الدكتور الصاوى: «ما حدث أن هناك ضغطا من جمعية أصدقاء قناة السويس وهى جمعية فرنسية تابعة لإحدى شركات الطاقة التى أسستها حملة أسهم الشركة العالمية لقناة السويس بعد تأميمها وتسوية التعويضات، وهذه الشركة تستخدم جمعية فى بورسعيد هى أشبه بجمعية صداقة مصرية فرنسية على المستوى المحلى كمنبر للضغط من أجل إعادة نصب تمثال ديليسبس».
يواصل الدكتور الصاوى: «بعد قرار نقل التمثال ليكون ضمن مقتنيات متحف قناة السويس، بضغط شعبى وإعلامى، لم تسكت الجمعية وأوعزت للبعض ومنهم مسئولون محليون ونواب لإثارة الموضوع فكان الرد الرسمى عليهم أنه إذا كانت هناك مطالبات شعبية يمكن أن ننظر فى الأمر، ومن هنا بدأت حملة ممنهجة وراءها جهة تنسيق تكتب تحت مسمى (الحملة الشعبية لإعادة تمثال ديليسبس)، وهى مجرد حملة على الفيسبوك بعدد محدود من الحسابات، وهى بالاسم شعبية ولكنها ليست كذلك».
انتهى كلام الدكتور الصاوى، لكن بقى القول إن ديليسبس خرج من بورسعيد بقرار رسمى، ورسالة شعبية تقول إن الرمز الاستعمارى الفرنسى ليس أقوى من كرامتنا الوطنية، وعلى أصحاب المطالبات «الوهمية» بعودته رفع الراية البيضاء، فمن نسف المصريون «جيشا وشعبا» ثمثاله فى 24 ديسمبر 1956 «خرج ولن يعود».