نهاية الأيديولوجيات فى الشرق الأوسط


قضايا أمنية

آخر تحديث: الجمعة 6 ديسمبر 2024 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

إبان الحرب الكورية فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى، بعث الجنرال دوغلاس ماك آرثر، بطل الباسيفيك، ببرقية إلى الرئيس هارى ترومان يدعوه فيها إلى ضرب القوات الشيوعية التى قال إن تقدمها «يشبه هبوب العاصفة»، بالقنبلة النووية. للتو أمره الرئيس الأمريكى بالعودة إلى واشنطن بعدما كان ماك آرثر أقرب من الجنرال دوايت أيزنهاور إلى البيت الأبيض.

الدبلوماسى الشهير جورج كينان، صاحب نظرية «الاحتواء» (1946)، إذ وصف القنبلة النووية بـ «القنبلة المجنونة»، قال لترومان «مع هذا الإيقاع التكنولوجى قد نصل إلى تلك اللحظة التى نُشاهد فيها حكاما مجانين يرقصون التانجو مع هذه القنبلة». وكان له مقال فى «الواشنطن بوست» بعنوان «رقصة التانجو مع الشيطان».

حتى الآن، لا تزال مجهولة الجهة التى كانت وراء إطلاق الجندى فى مشاة البحرية (المارينز) «لى هارفى أوزوالد» النار على الرئيس جون كنيدى، فى 22 نوفمبر 1963، ولا وراء قاتل القاتل جاك روبى الذى يتولى إدارة ملهى ليلى فى مدينة دالاس. ولكن من التكهنات التى شاعت آنذاك أن بين الذين وُضعوا فى دائرة الشك جهاز الاستخبارات الإسرائيلى (الموساد) بعدما قرر كنيدى إيفاد بعثة تفتيش إلى إسرائيل للكشف عن برنامجها النووى.

هنا نشير إلى أن المفاعل النووى فى ديمونا، فى صحراء النقب، وضع فى العمل فى العام 1964، أى بعد أقل من عام من عملية الاغتيال، يكون الهدف الأساس من المفاعل صناعة القنبلة، بعدما رأى دافيد بن غوريون أن إسرائيل تقع داخل أوقيانوس بشرى معاد، ومن دون أن يكون بالإمكان التنبؤ بساعة انفجاره.

هكذا بعد نحو سبعة عقود من كلام كينان، تستعيد المؤرخة اليهودية الأمريكية جوديث باتلر ذلك الكلام، عقب دعوة وزير التراث الإسرائيلى عميحاى إلياهو إلى ضرب غزة بالقنبلة، لتكتب على صفحتها «ها إن القنبلة المجنونة تدق على رءوس المجانين فى إسرائيل».

• • •

الخيار النووى ممكن فى أى لحظة إذا ما أخذنا بالاعتبار مدى تأثير التأويل الأعمى للنص التوراتى فى تشكيل العقل السياسى فى إسرائيل. وكان الفيلسوف اليهودى الهولندى باروخ سبينوزا (1632 - 1677) الذى شكلت آراؤه انعطافة بنيوية فى كيفية الدخول إلى جوهر النص الدينى فى اليهودية، قد انتقد ما دعاه «عبودية الدم» لدى الحاخامات الذين وَصف أدمغتهم بأدمغة السلاحف «لأنهم غرزوا السكين فى ظهر يهوه»، ما حمل الحاخامات على مطاردته بالسكاكين إلى البرتغال، مسقط رأس آبائه. المؤرخة اليهودية الأمريكية آفيفا تشومسكى، ابنة نعوم تشومسكى، حذرت من «اللحظة النووية فى رأس نتنياهو»، ما دام شعاره «تغيير الشرق الأوسط»، وهو شعار فضفاض جدا بالنسبة إلى دولة بحجم إسرائيل الديموجرافى والجغرافى.

الأوروبيون أبلغوا الإيرانيين مرات عدة أن أصابع نتنياهو تقترب أكثر فأكثر من الأزرار النووية، خصوصا مع تنامى النزعة الأيديولوجية لدى أركان الائتلاف، ومن دون أن تكون هناك فى الداخل، ومع اعتبار ضبابية المشهد العام، أى قوة مؤثرة يمكن أن تضبط الإيقاع لدى تلك الرءوس الحامية، وتحول بينها وبين الوقوع فى «الجاذبية النووية». بطبيعة الحال، الوضع مختلف كليا فى الولايات المتحدة. عندما فكر ترامب فى نوفمبر من العام 2017، بتوجيه ضربة نووية إلى كوريا الشمالية، بادر الجنرال جون هايتن، قائد القوات الاستراتيجية، على الفور، إلى إعلان رفضه تنفيذ أوامر البيت الأبيض بإطلاق صواريخ نووية «من دون سند قانونى»، ليسانده فى ذلك أعضاءٌ بارزون فى الكونجرس.

وكان الإسرائيليون قد اقتربوا فى وقت سابق من اللحظة النووية. حدث ذلك فى الأيام الأولى من حرب أكتوبر من العام 1973، واقتراب السوريين من جسر «بنات يعقوب» الذى يقود الاستيلاء عليه، وخلال ساعات قليلة، إلى شق إسرائيل نصفين. آنذاك أمرت جولدا مئير بوضع الصواريخ النووية قيد الاستعداد، قبل أن يسارع الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون إلى إقامة جسر جوى بين بلاده والدولة العبرية.

• • •

بعض الأبحاث التى تصدر عن معاهد إسرائيلية مخــتصة ترى فى إيران ما رآه توماس فريدمان فى محادثات افتراضية بين وليم بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ونظيره الإيرانى «دولة مخترقة ومكشوفة ومعزولة»، ليكون هذا هو الوقت المثالى لتقويض النظام فيها، وقيام نظام بديل فيها يكون حليفا للولايات المتحدة التى قررت، بعد التجربة الأفغانية كجزء من مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، عدم الانزلاق إلى ما دعاها الجنرال ديفيد بترايوس «رقصة المستنقعات».

أكثر من ذلك، الصقور داخل اللوبى اليهودى يرون أن «رحلة العقل فى القارة العجوز» لم تبدأ بعد قرون طويلة من الحروب التى إحداها استمرت 116 عاما (حرب المائة عام)، إلا عندما عاشت ويلات الحرب العالمية الثانية. هكذا يفترض أن تبدأ «رحلة العقل فى المنطقة». ولكن من هم المجانين فى هذه الحال؟ ومن يسعون، استنادا إلى حيثيات ماورائية، لإنشاء «إسرائيل الكبرى» على أنقاض الدول والشعوب الأخرى؟

لا شك أن الدولة العبرية قامت على أسس توراتية، وإن لجأ تيودور هرتزل وغيره من قادة الحركة الصهيونية إلى طرق ميكيافيلية ومركنتيلية لتسويق مشروع «الوطن القومى» لدى دول تتمحور سياساتها حول صراع المصالح وصراع أباطرة المال.

بطبيعة الحال، هناك عوامل أخرى. مناحيم بيجن، المرشد الأعلى لليمين، وصاحب شعار «العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين»، ترأس أول حكومة فى إسرائيل فى العام 1977، أى بعد 29 عاما من إعلان قيام الدولة، لتبدأ سنوات تبادلية سقط خلالها إسحق رابين برصاصة ييغال عمير بعدما كان قد لامس فى مفاوضاته مع الرئيس السورى حافظ الأسد «الأرض المحرمة».

كثيرون كتبوا آنذاك عن «ساعة الزلزال فى الشرق الأوسط»، أى ساعة إبرام اتفاق السلام بين دمشق وتل أبيب، على أنها نهاية صراع كان يمكن أن يمتد إلى «ظهور الماشيح المخلص». القاتل قال إن «صرخة راحيل» كانت تدوى فى أذنيه لتبدأ فى العام 2001 رحلة صعود اليمين، تزامنا مع وصول جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض ليكون العهد الذهبى للمحافظين الجدد.

أكثر فأكثر بدأ تأثير العامل التوراتى فى صوغ السياسات الإسرائيلية ليبلغَ ذلك الذروة مع سيطرة اليمين الدينى المتطرف على الكنيست بقطبى هذا اليمين إيتمار بن جفير وبسلئيل سموتريتش.

حتما لم يحدث ذلك، وكما قال شلومو ساند، المؤرخ البارز، وصاحب «اختراع شعب إسرائيل»، فقط كنتيجة لتفاعلات أيديولوجية استمرت لنحو نصف قرن، وإنما أيضا لما كان يحدث وراء الحدود من صيحات تهدد بإزالة إسرائيل من الوجود، مع وصفها بأنها «أوهن من بيت العنكبوت». الصيحات إياها تحولت إلى «ثقافة يومية على شفاه الأتباع، وكان لا بد من أن تهز تلك الصيحات الكثير من مناطق اللاوعى فى الشخصية الإسرائيلية».

• • •

إذا كان فرنسيس فوكوياما قد أطلق نظرية نهاية الأيديولوجيا فى كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» (1992) غداة سقوط الشيوعية فى الاتحاد السوفياتى (وتراجع عن ذلك فى وقت لاحق)، فإن العالم السياسى الفرنسى إيمانويل تود تحدث عن أزمة الأيديولوجيا فى كل من إيران وإسرائيل، بعدما كان الفرنسى الآخر جان دانيال، مؤسس «النوفيل أوبسرفاتور» قد لاحظ أن الأيديولوجيات (الشيوعية، النازية، الفاشية) فى القرن العشرين قد تحولت إلى أديان، ليظهر، فى القرن الحادى والعشرين، من عمل على تحويل الأديان إلى أيديولوجيات.

فارق شاسع بين إسرائيل التى تساندها مؤسسة يهودية ضاربة على ضفتى الأطلسى، وقد تم توظيف الهولوكوست على نحوٍ مذهل فى البنية الثقافية والأخلاقية لدى المجتمعات الغربية، وإيران التى اختارت، ومنذ اللحظة الأولى للثورة (1979)، الصراع مع الغرب الذى ذهب بعيدا فى عالم التكنولوجيا المتعدد الأبعاد، ولتعتمد فى سياساتها مبدأ «الكثير من الأيديولوجيا والقليل من البراجماتية».

التجربة الأيديولوجية كانت شاقة ومريرة، لنلاحظ تبدلا واضحا فى المسار باختيار مسعود بزشكيان لرئاسة الدولة تزامنا مع النقلة النوعية لمرشد الجمهورية الذى إذ كان يصف التعامل مع «العدو»، أى أمريكا بـ «السم الزعاف»، قال فى العام 2024 بـضرورة التعامل، وحتى التفاعل، مع العدو.

الدبلوماسى المخضرم آرون ميلر يعتبر أنه مثلما وصلت إيران إلى خط النهاية، كذلك إسرائيل.. هل هى إذا، نهاية الأيديولوجيات فى الشرق الأوسط؟

فلاسفة ومؤرخون يهود فى أمريكا يسألون ما إذا كان «بإمكاننا، كيهود، أن نغتسل من تلك الدماء بصلواتنا فقط، ولو امتدت إلى نهاية الدهر؟»؛ ليلاحظ عالم السياسة الأمريكى ستيفن والت أن هولاكو قضى ضحية الصرع، وأن كاليجولا قضى صريعا، فأى نهاية ينتظرها نتنياهو يا ترى؟

نبيه البرجى

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلي

 

 

 

   

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved