حمير فى حياتنا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 7 يناير 2015 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
كان صباحا باكرا والقارب يتوسط النيل، لا أشعر به متحركا إلا حين أرى صفوف النخيل تمر مختالة على ضفتى النهر. وبين الصفوف على الضفة الشرقية للنهر رأيت حمارا يركض وعلى ظهره صاحبه يحمل فى يده شمسية غير مفتوحة. المألوف فى المنظر حمار فى صعيد مصر يمشى فى غير عجلة من أمره أو أمر صاحبه. أما غير المألوف فيما رأيت فكان ركض الحمار. لم يكن يمشى مشى الحمير أو يركض ركضهم. كان يرقص. يكاد وهو يرقص يطير. كان فرحا كطفل سعيد بصباحه ومستعدا كفلاح عتيد ليوم آخر من عمل شاق.
•••
تجاوز قاربنا الحمار وغابت الصورة ليحل محلها شريط الذكريات المعتاد. الهدوء يسود من حولى والصباح ينعش والرفاق لم يستيقظوا بعد. عناصر اجتمعت لتدفع بالذكريات إلى سطح الذاكرة. فوجئت بأن فى حياتى كل هذا العدد من الحمير. صحيح أننى لم أذكر كثيرين منهم يتمتعون بخفة ظل حمارنا الراقص الذى تجاوزه القارب، ولكنى اكتشفت أن كلا منهم خلف فى الذاكرة انطباعا مختلفا عن غيره من حمير حياتى.
•••
أذكر هذا الحمار والقفتين المتدليتين على جانبيه يحملان أطيب أنواع «الفول الحراتى». نهرع نحوه بأسبتة الخوص والأيدى مقبضة على قرش صاغ أو أقل لننفذ تكليف الأهل بشراء عدد لا بأس به من أرطال الفول. هؤلاء الأهل ما إن يسمعوا صوت الحمار وقد دخل الشارع من نهايته فى اتجاه بيوتنا، وشدو صاحبه مناديا على بضاعته، إلا وتصيبهم نشوة. وأعنى تماما ما أقول. كانت نشوة. فالرجل يشدو. كان صوته من أعذب الأصوات التى سمعتها فى حياتى، وربما ضاعف من عذوبته أن حماره كان يعقب عليه بعد كل فاصل من الشدو بوصلة نهيق إعجابا أو ربما تباهيا كصاحبه بصوته. عرفت فيما بعد أن الحمار، أى حمار، لا يعرف أن صوته غير جميل، بدليل أنه أحيانا ينوع فيه، ظنا منه أنه حين يمدد إحدى النهقات لثوان أطول فإنه يطرب السامعين أكثر وأكثر.
•••
حمارى الآخر تعرفت عليه فى عزبة قريبة من مدينة كفر الشيخ، كان يدعونى لقضاء إجازة نهاية الأسبوع فيها عائلة زميل فى المدرسة الابتدائية. كنا، زميلى وأنا، نقضى معظم الرحلة نفكر فيما سنفعله معا ومع الحمارين. نحلم بهما خلال رحلة الساعة التى نقضيها فى «قطار الدلتا»، الوسيلة الأشهر فى قائمة ذكرياتى بين كل وسائل النقل التى استخدمتها فى حياتى. كانت التعليمات تقضى بأن ننزل من القطار عند نقطة قريبة من العزبة ليمتطى كل منا حمارا، وأن يحرص الفلاح المرافق على ألا تلمس أحذيتنا الأرض حتى نصل إلى الدار.
أما الحمار الأهم فى مرحلة أخرى فكان ذلك الذى ساعد فى توصيلى من عزبة صديق آخر إلى مدينة ميت غمر فى طريق العودة إلى القاهرة صباح اليوم الذى شهد نشوب ثورة 23 يوليو.
•••
قبل سنوات قليلة، قامت ضجة فى الولايات المتحدة بسبب السماح لحمار عراقى بالحصول على تأشيرة دخول، فيما ترفض واشنطن تسهيل سفر آلاف العراقيين الذين تعاونوا مع قوات الاحتلال الأمريكى. تقول القصة إن هذا الحمار، ويدعى سموك (سمى بهذا الاسم بسبب ولعه الشديد بأعقاب السجاير) «كان فردا» فى فصيل أمريكى متمركز فى مدينة الفالوجا أثناء الحرب الأمريكية ضد العراق. هناك قامت علاقة قوية بين جنود الفصيل وزميلهم الحمار. جاء فى سجلات حرب الفالوجا أن خدمات الرقيب «سموك» خلال المعارك كانت مضرب الأمثال فى ظروف معيشية وقتالية وبيئية شديدة الصعوبة. وعندما حان موعد عودة الفصيل إلى بلاده، طلب الجنود جميعا مكافأة الحمار بمنحه تأشيرة دخول وتذكرة سفر إلى أمريكا. تكلفت التذكرة 18 ألف دولار دفعتها الخزانة الأمريكية راضية. وعند وصوله إلى القاعدة العسكرية أقيم احتفال خاص بمناسبة تقلده أعلى وسام شجاعة لخدماته العظيمة. لم يكن الوسام هو الأول الذى يمنح لحمار قدم خدمات عسكرية، فقد حصل حمار آخر خلال معركة جالبيولى فى الحرب العالمية الأولى على وسام أعلى من القيادة العسكرية البريطانية لدوره فى إنقاذ حياة مئات الجرحى والمرضى من أفراد الجيشين البريطانى والاسترالى.
قيل عن حمار الفالوجا إن الجنود الأمريكيين أصروا على أن يأخذوه معهم إلى أمريكا خشية أن يحاكمه العراقيون بتهمة التعاون مع جيش الاحتلال، فيعدمونه مع مئات بل ألوف من العراقيين الذين تعاونوا مع قوات التحالف.
•••
التاريخ شاهد على أعمال فذة قام بها الحمير فى المعارك الكبرى. شاهد أيضا على علاقة من نوع خاص قامت منذ القدم بين الجيوش والحمير. قرأنا ما يشبه الأساطير عن هذه العلاقة. يذكر التاريخ مثلا أن قائد جيش من جيوش بيزنطة كلف الحمير حراسة مؤخرة قواته المنسحبة أمام جيش الفرس، فتحقق له الأمر، بل وأكثر، إذ مارس حمير بيزنظة عنادهم الشهير وثباتهم على الموقف مما أجبر جيش فارس على التقهقر وانتهت الحرب بهزيمة الفرس.
يشهد التاريخ أيضا على أنه ما كان يمكن لجيوش بريطانيا أن تعبر جبال كوش وتدخل أفغانستان فى القرن التاسع عشر، بدون مساعدة مئات الحمير المنضوين تحت لواء التاج البريطانى.
•••
باستثناء اليهود الذين يعتبرون الحمار حيوانا غير طاهر، خصصت الأديان الأخرى، السماوية وغير السماوية، مكانة متميزة للحمار. فالحمار هو الذى حمل مريم وابنها إلى مصر وعاد بهما، والحمار هو الذى دخل بعيسى عليه السلام مدينة القدس ظافرا ومنتصرا. فى زياراتى المتكررة للمعابد الهندية رأيت الألهة تمتطى الحمير اعتزازا بها واطمئنانا لها. وفى الحضارة المصرية اتخذ كهنوت مصر الحمار رمزا من رموز الإله رع.
•••
كن حكيما كالحمار. هكذا ذهبت وصية القدماء. يعرف المتعاملون مع الحمير حق المعرفة أن أحدا من البشر لا يستطيع أن يفرض على الحمار أن يؤدى عملا يشعر الحمار أن وراءه خطر على حياته. الحمار لا يقترب من مواقع الخطر، وله مآثر تاريخية فى إنقاذ قوافل وأفراد قبل أن تطأ أقدامهم تربة أو رمال متحركة أو سلوك طرق مهددة بسقوط الصخور. لن يدفع حمار بنفسه إلى التهلكة مهما بلغت وحشية من يدفعه إلى عمل شىء يشعر بخطورة عواقبه. عناد الحمار يحميه، وإخلاصه الأسطورى لصاحبه يحمى الاثنين معا.
إلا أنه يبدو أن الحمار، مثل كثير من الحكماء، يبالغ أحيانا فى ممارسة أصول الحكمة والتمسك بقواعدها. قيل، ويعرف أصحاب الحمير، أن الحمار إذا وجد نفسه فى مكان وسط بين الماء والطعام وهو فى حاجة إليهما فسوف يتجمد فى مكانه مشلول الحركة إلى درجة أنه قد يموت جوعا قبل أن يتخذ القرار المناسب.
•••
يرفض كثير من الناس تصديق أن الحمار كالطفل يحب اللعب، ويريد دائما أن يتعلم الجديد. أما صفة الغباء التى لحقت به فالسبب فيها إخلاصه المتناهى وعناده فى التمسك بهذا الإخلاص. إلا أن الخبراء يحذرون من أن الحمار لا يخلص إلا بعد أن يتشبع بالثقة ويطمئن، الأمر الذى يجعل بعض المختصين من علماء الحيوان يؤكدون أن الحمار حيوان ذكى، يفكر جيدا قبل اتخاذ قرار، ويدرس بعناية مواقع أقدامه، ويتحمل فى صمت مدركا أن سر بقائه وتكاثره يعتمد على وفائه وقدرته على تحمل المشاق.
•••
فى العالم أربعون مليون حمار، أغلبهم من أصول مصرية أساسا وبلاد ما بين النهرين. ثلث هذا الرقم يعيش فى دول تنتمى إلى النظام الإقليمى العربى والنظام الإقليمى الأفريقى، بل لعله أكبر تجمع للحمير فى منطقة جغرافية واحدة. بينما تكاد أمريكا تخلو منه وفى أوروبا تناقص سكان القارة من الحمير من أربعة ملايين إلى مليون واحد فى سنوات قليلة.
•••
يبقى الحمار أحد أقدم ألغاز الخليقة. اختلف حوله الناس كما لم يختلفوا حول حيوان آخر.. اختلف الشعراء والمفكرون والأدباء، فهناك الحمار الذى حمل دون كيشوت ورماحه ووصفه ثيرفانتيس بصديق الإنسان وحنون وطيب القلب. وهناك حمار شكسبير، غبى وجاهل وغير قابل للتعلم والإصلاح. وهناك حمار جورج أوريل الذى جسد شخصية بنيامين فى بداية مزرعة الحيوان، مخلص شديد الإخلاص وعنيد شديد العناد.