توجه اقتصادي جديد
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 7 يناير 2023 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
أنبأت الصحف قراءها فى الأسبوع قبل الماضى بقرب اعتماد وثيقة «سياسة ملكية الدولة»، وهى فى جوهرها وثيقة تعلن الدولة بمقتضاها مجالات النشاط الاقتصادى التى تتخارج منها أكثر منها وثيقة بشأن المجالات التى ستمتلك الدولة فيها منشآت بشكل كامل أو جزئى. خروج الدولة من عدد من مجالات النشاط الاقتصادى لابدّ أن يلقى الترحيب من الحريصين على تحقيق النمو الاقتصادى، ومعه التنمية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية فى مصر. الدولة ليس لها أن تضطلع بدور الفاعل الرئيسى فى النشاط الاقتصادى. تجارب الدولة فى ذلك من الاتحاد السوفيتى إلى الصين، حتى الثمانينيات من القرن الماضى، إلى الهند، إلى غيرها فى منطقتينا العربية والأفريقية مثلا، فى محصلاتها، لم تكن ناجحة فى الأمد الطويل. المنطق من وراء هذه التجارب كان تخصيص الموارد للقطاعات الاقتصادية بما يحقق أعلى معدلات ممكنة للنمو الاقتصادى، والتوزيع العادل لعوائد هذا النمو. بمرور السنين تبيّن إما عجز التخطيط المركزى عن تحقيق التخصيص الأمثل للموارد، أو أن هذه التجارب لم تكن بكل بساطة قابلة للاستدامة. هذا هو ما دعا إلى التخلى عن التخطيط المركزى وفتح المجال لآليات السوق. ونضيف أن سيطرة الدولة على عوامل الإنتاج يمكنها من التسلط وممارسة السلطوية. صحيحٌ أن تقلص النشاط الاقتصادى للدولة لا يعنى بالضرورة التحول إلى الديمقراطية، إلا أنه شرط لا غنى عنه لهذا التحول.
الإعلان عن وثيقة «سياسة ملكية الدولة» تزامن مع الأزمة المالية الخانقة التى تمر بها البلاد وتنعكس آثارها على الاقتصاد المصرى وعلى مجمل المصريات والمصريين، وتزداد آثارها كلما انخفضت مستويات دخولهم. قد لا تكون ثمة علاقة بين الإعلان عن الوثيقة، من جانب، والأزمة المالية، من جانب ثانٍ، والمسألة الاقتصادية المصرية الأعم، من جانب ثالث. غير أنه يبدو من المشروع اعتبار وجود هذه العلاقة احتمالا. هذا المقال يأخذ هذا الاحتمال مأخذ الجد ويعلق عليه ثم ينتقل إلى أمثلة على سياسات ضرورية لعدم الوقوع فى براثن الاستدانة من جديد ولتفكيك المسألة الاقتصادية المصرية وتحقيق التنمية المرجوة.
• • •
فى التفكير فى صياغة الوثيقة جانب إيجابى لا شك فيه وهو أن من صاغها يدرك أن المحنة التى تواجهها مصر فى الوقت الراهن ليست أزمة خدمة الدين الخارجى وخدمته فقط، بل هى مسألة أعمق وأوسع نطاقا، هى مسألة الاقتصاد المتخلف، منخفض الإنتاجية، معتل التوزيع. الوثيقة لا تعنى بأزمة خدمة الدين الخارجى، الملكية أو غير الملكية لا يمكن أن يكون لهما أثر إلا فى المدى البعيد أو المتوسط على أفضل تقدير. هذا هو الجانب الإيجابى. غير أن ملكية الدولة أو عدمها بعيدتان عن أن تكونا وحدهما حلّا للمسألة الاقتصادية الأعمق. ملكية الدولة أو عدمها لا بدّ أن يندرجا فى إطار أوسع يشمل السياسات الكفيلة باضطلاع الدولة بدورها فى الاقتصاد، بكفاءة تعظم النمو الاقتصادى وتوزع عوائده توزيعا عادلا. يدعو إلى القلق أنك لا تجد فى الأنباء أى شىء عن هذه السياسات، بينما كان يجب أن تعج بها الصحافة وأن تكون محور النقاش العام فى الوقت الحالى بالذات. حتى بدون الإعلان عن أن ثمة نهجا اقتصاديا مغايرا تنتهجه الدولة، فإن مجرد الإعلان عن سياسات جديدة من شأنه أن يشجع الناس وأن يثير الهمم. الصناديق التى أعلن عن إنشائها مؤخرا لها مؤيدوها ولها معارضوها ولكنها لا تحل المشكلة الأولى للبلاد وهى المسألة الاقتصادية. صندوق قناة السويس يمكن أن يشترك فى تمويل خدمة الدين ولكن لا يجوز التعويل عليه فى تحقيق النمو والتنمية. إذا غضضنا الطرف عن التحفظات المبداة على فكرة الصندوق لأسباب سياسية، فإنه يمكن أن تنشأ عنه مشروعات، ولكن هل هذه المشروعات تكفل النمو والتنمية؟
ثم إن إفساح المجال للقطاع الخاص ليس كفيلا وحده بتحقيق النمو والتنمية. فى الخمسين عاما الماضية تنامى نصيب القطاع الخاص فى الاقتصاد المصرى حتى وصل إلى 72 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى سنة 2021. هذه نسبة مرتفعة حتى وإن شملت قطاعا عاما متخفيا. فى نصف القرن الماضى لم يفلح الاقتصاد المصرى فى النمو بمعدلات مرتفعة مستمرة ولا فى تحقيق التنمية ورفع مستويات المعيشة والقضاء على الفقر، أو الانخفاض بمعدلاته. فيتنام والصين انعتقتا من اقتصادين أكثر مركزية مما كان عليه الاقتصاد المصرى فى الستينيات والسبعينيات الأولى من القرن العشرين ولكنهما نما باقتصاديهما ونوعاه وانخفضا بمعدل الفقر فى كل منهما حتى وإن بقى نصيب القطاع الخاص فيهما منخفضا، فهو كان 43 فى المائة فى فيتنام فى سنة 2020 و60 فى المائة فى الصين فى سنة 2019. انخفضت فيتنام بمعدل الفقر فيها محسوبا بدخل يومى يساوى 3,20 دولار من 16,8 فى المائة فى سنة 2010 إلى 5 فى المائة فى سنة 2020، منتشلةً 10 ملايين فرد من الفقر خلال السنوات العشر. أما الصين فلقد اختفى فيها الفقر محسوبا بمستوى للدخل اليومى يبلغ 3,65 دولار اختفاءً تاما. معدل الفقر المعلن فى مصر كان 29,7 فى المائة فى سنة 2020ــ2019. العبرة فى فيتنام والصين كانت فى عدم الاكتفاء بالتخلى عن التخطيط المركزى وإفساح المجال للقطاع الخاص، ولا حتى مجرد تشجيع الاستثمار وإنما هى كانت فى وضع السياسات الكفيلة بتشجيع الاستثمار الأفضل والاستفادة منه. ليس المقصود هنا استنساخ السياسات الفيتنامية أو الصينية فهذا ليس معقولا. فيتنام نفسها استفادت من دروس التجربة الصينية السابقة عليها ولكنها صاغت السياسات المناسبة لها.
السياسات تصاغ للتصدى لمسائل محددة. هذا المقال يعتبر أن السياسات المطلوبة فى مصر ينبغى أن ترمى، وفى الوقت نفسه، إلى تشجيع الاستثمار المحلى والأجنبى، وإلى النهوض بالتشغيل، والارتقاء بالقطاع غير المنظم. الاستثمار والتشغيل ينبغى أن يكونا هدفين متلازمين. التشغيل هو السبيل للإنتاج ولتوزيع الدخل كذلك.
إجراءات السياسة النقدية، والانخفاض بسعر صرف الجنيه المصرى لاجتذاب الاستثمار الأجنبى المباشر، ليست كافية. فى حالتنا، حيث يرتفع الطلب على العملات الصعبة، ينبغى دراسة السلع والخدمات التى يوجد للاقتصاد المصرى فيها ميزات نسبية، أو يمكن أن تخلق له فيها ميزات نسبية، ويرتفع الطلب عليها فى الأسواق الخارجية وفى السوق المحلية. تصدير هذه السلع والخدمات يمكن أن يدرّ إيرادات بالعملات الصعبة الضرورية لاستيراد المواد الغذائية والسلع الرأسمالية ومدخلات الإنتاج وغيرها. إنتاج السلع والخدمات المطلوبة هو السبيل إلى تشغيل اليد العاملة تشغيلا منتجا يوّلد أجورا لائقة تلبى احتياجات العمال وأسرهم وترتفع بمستويات معيشتهم. ليحدث ذلك، لا بدّ من سياسة للتشغيل. نفس دراسة الأسواق التى يرتفع الطلب فيها على السلع والخدمات المصرية هى من إجراءات سياسة التشغيل لأن من مقاصدها التعرف على الأنشطة التى يمكن تشغيل اليد العاملة المصرية فيها تشغيلا منتجا. إلا أن سياسة التشغيل يجب أن تشمل أيضا التعرف على المهن المطلوبة فى عمليات الإنتاج، وإجراءات من سياسة التدريب المهنى، وقبلها من سياسات التعليم المهنى والعام والجامعى. وعلى الدولة أن تساند عمليات الإنتاج بتيسير الائتمان للقطاعات المعنية، وبدعم البحث العلمى فيها، وبمساندة تسويقها. مجمل الاجراءات فى مجالات الإنتاج والتسويق والتشغيل يُشَكِّلُ السياسات الصناعية التى كانت موضوعا لمقال كاتب هذه السطور المنشور يوم 2 أكتوبر الماضى. نشدِّد على أن التشغيل لا ينبغى اعتباره نتيجة تلقائية للاستثمار. هو هدف فى حد ذاته. أما قوة العمل التى تعنى بها سياسة التشغيل فيجب أن تكون حافزا يجذب الاستثمار.
• • •
غير أنه على ما فى الاستثمار، الأجنبى المباشر والمحلى، فى المشروعات الكبيرة من فوائد، فإن التعويل عليه وحده لرفع معدلات النمو المستدامة ولتحقيق التنمية ليس فى محله. الاقتصاد المصرى يتشكل من محيط هائل من المشروعات الصغيرة جدا، والصغيرة، والمتوسطة التى تعمل بمستويات منخفضة من الإنتاجية، فتدرّ على العاملين فيها أجورا ودخولا زهيدةً وتضطرهم للعمل بشروط وظروف صعبة أبعد ما تكون عن اللياقة. فى واحد من التقديرات بلغ عدد هذه المشروعات 2,2 مليون فى سنة 2014، هى 99 فى المائة من مشروعات القطاع الخاص غير الزراعية، شغلت 75 فى المائة من المشتغلين فى ذلك العام. هذا هو القطاع غير المنظم فى الاقتصاد. فى تقدير أحدث، أسهم القطاع غير المنظم الحضرى فى سنة 2021 بـ 35 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى وشغّل 17,4 مليون عامل، أى 60 فى المائة من قوة العمل البالغة 29,3 مليون عامل وعاملة. الاستثمار، أجنبى أو محلى، ضرورى فى القطاع غير المنظم. هذا الاستثمار لا يعنى تمويل هذه المشروعات وحده وإنما، وربما قبل تمويلها، رفع مستوى إنتاجيتها عن طريق تعريفها بتقنيات الإنتاج الحديثة المناسبة، وإقامة الروابط الأفقية فيما بينها، والروابط الخلفية والأمامية مع المشروعات الكبيرة، وشراء التوريدات الحكومية ممن يسمح كفاءة إنتاجها بذلك، وتدريب القائمين عليها على إدارة المشروعات حسب أحجامها، وكذلك تدريب العاملين فى هذه المشروعات على الإنتاج والتسويق، ثم توفير الحماية الاجتماعية لهم، وإن كانت بشكل مبسط. هذا هو عنوان السياسة الضرورية للقطاع غير المنظم وليس التركيز على إدخالها القطاع المنظم الحديث حتى تسدد الضرائب عن أنشطتها. أى ضرائب ستسدد هذه المشروعات أصلا وهى منخفضة الإيرادات نتيجة لانخفاض إنتاجيتها؟ الأجدر هو التركيز على رفع إنتاجية هذه المشروعات وتحسين شروط العمل وظروفه فيها، والذى سيتواكب مع رفع مستوى الإنتاجية، وتعزيز الترابط بين المشروعات كلها، بحيث يصبح نسيج المشروعات، تدريجيا، نسيجا واحدا. وعلى أى حال، المشروعات التى ترتفع إنتاجيتها تدريجيا وتترابط مع غيرها ستنتقل رويدا رويدا إلى القطاع المنظم خاصة إذا كانت ثمة حوافز تشجع على هذا الانتقال. وتحسين شروط العمل فى مشروعات القطاع غير المنظم سيرفع من مستوى الأجور والدخول فينتشل الناس من الفقر، ويخفف من أعباء سياسات المعونة الاجتماعية على الدولة، ويرفع من مستوى القوة الشرائية فينشط الاقتصاد. عندئذ تزيد حصيلة الضرائب المبتغاة.
• • •
ما تقدم ليس إلا أمثلة على سياسات لتحقيق النمو والتنمية، وهى ضرورية لرفع مستويات معيشة المواطنين والمواطنات، وللحيلولة دون السقوط مرةً أخرى فى دورة جديدة من الاستدانة، ودون التراجع والفقر المترتبين عليها.
الإعلان عن مثل هذه السياسات ضرورى هو الآخر لكى يطمئن الناس على مستقبل الاقتصاد فى بلدهم وحتى ترتفع معنوياتهم فى وقت استبد بهم فيه القلق.