حين تغيب مصر

سعد محيو
سعد محيو

آخر تحديث: السبت 7 مارس 2009 - 8:53 م بتوقيت القاهرة

 تطوران جسيمان طرقا أبواب المنطقة العربية بعنف الأسبوع الماضى:

الأول: قرار محكمة الجنايات الدولية بإصدار مذكرة اعتقال الرئيس السودانى عمر البشير، وبدء أعمال المحكمة الدولية الخاصة بمقاضاة قتلة رئيس الوزراء اللبنانى رفيق الحريرى فى لايشنتام (هولندا).

والثانى: قرار الرئيس الأمريكى بوش بسحب القوات الأمريكية «المقاتلة» من العراق فى موعد أقصاه 1 أغسطس 2010.
كلا هذين التطورين يوحيان للوهلة الأولى بالكثير من الأمل. لكن هذا للوهلة الأولى فقط. لماذا؟
سنتطرق إلى ذلك بعد قليل. قبل ذلك وقفة أمام بوارق الأمل.

أتى قرار المحكمتين ليوحى لشعوب المنطقة العربية بأن بشائر العدالة العالمية أطلت أخيرا، وهى ستنقذهم من عسف وعنف انكشارية ومماليك وحشاشى القرن الحادى والعشرين، خاصة أن هذا النوع من المحاكم كان بمثابة انتصار مجلجل للفلسفة السياسية الكوزموبوليتانية (أى العالمية المتحررة من الأحقاد القومية أو المحلية) فى رؤاها للحق والحقيقة والعدالة والتاريخ، على أعدائها من أنصار الفلسفات العنصرية والقومية المنغلقة.

فالكوزموبولوتيون لطالما قالوا إن ثمة بالفعل شكلا من أشكال الأخلاقيات العالمية التى تجد مصدرها فى الضمير الإنسانى كما فى العناية الإلهية أو العقل الكونى. ولذا كل البشر، وليس فقط المواطنون فى دولة ما أو قبيلة أو عشيرة ما أو طائفة ما، يجب أن يخضعوا للعدالة العالمية نفسها.

هذه الفلسفة العالمية، التى بدأت مع الفيلسوف الإغريقى دياجينوس الذى كان يصف نفسه وباقى سرب الفلاسفة من أنصاره بأنهم «مواطنو العالم»، تنطلق من معطى يقول: «إننا لا نعيش فى عالم عادل، ولذا يجب العمل أولا على بناء عدالة عالمية تستند إلى الأخلاق. فمن غير العدل أن يكون هناك بشر فائقو الغنى وآخرون مدقعى الفقر، ولا أيضا أن يكون هناك بشر يتمتعون بالأمن والديمقراطية والحريات، وآخرون يعيشون فى ظل الاستبداد والخوف والعنف والديكتاتوريات.

ولكى ندرك أهمية، وخطورة، هذه الفلسفة الأخلاقية ــ الإنسانية التى تحبو الآن نحو تحقيق أولى انتصاراتها، يجب أن نتذكّر أن الفلسفات الأخرى (لواقعية، القومية، الإقليمية) التى كانت لها اليد العليا عمليا فى كل التاريخ الحديث كما القديم، ترفض بشدة أى محاجة حول وجود أخلاق عالمية، وبالتالى عدالة عالمية.

بيد أن هذا التفاؤل قد لا يكون فى محله كثيرا حين نتذكر أن ثمة خطرين كبيرين يحدقان بقوة بمفهوم العدالة العالمية:

الأول: استمرار تدخل الدول ــ الأمم الكبرى الاستنسابى فى عمل القضاء الدولى، سواء من ناحية «انتقاء» القضايا التى يجب طرحها على العدالة أو توقيت طرحها. والثانى: احتمال وقوع المحاكم الدولية فى قبضة جناح من الكوزموبوليتيين (العالميين) الذين يفسرون العالمية على أنها إجازة عمل لهم لفرض سيطرة حضارة الغرب على العالم.

بصمات الخطر الأول جلية فى محكمتى السودان ولبنان.

ففى السودان، كانت الولايات المتحدة الأكثر تهليلا لمذكرة القبض على البشير التى أصدرتها محكمة الجنايات، على رغم أنها كانت، ولا تزال، ترفض الاعتراف بشرعية هذه المحكمة. كان المسئولون الأمريكيون حريصين كل الحرص على القول قبل وبعد صدور قرار الاعتقال بأنه إذا ما تجاوب البشير مع المطالب والشروط الدولية، فقد تتحرك واشنطن لإقناع مجلس الأمن بوقف عمل محكمة الجنايات الدولية ضده.

وهذا يعنى أن واشنطن مستعدة لتبرئة الرئيس السودانى من تهم إبادة 300 ألف إنسان وتشريد 3.2 مليون آخر، إذا ما نفّذ شروطها: تسليم كل صنابير النفط لها، ومنع الصين وروسيا وأوروبا وأى دولة أو قارة أخرى من الاقتراب، مجرد اقتراب، من هذه الصنابير.

وفى لبنان، يجب ألا ننسى أن قرار تأسيس محكمة الحريرى جاء فى عهد الرئيس السابق بوش الذى كان أوصد كل الأبواب أمام أى حوار مع سوريا وإيران ما لم تنفذا كل شروطه، الأمر الذى عنى أن بوش كان ينوى أصلا استخدام المحكمة كورقة ضغط إقليمية رئيسة.

كلا هذين المعطيين يدفعاننا إلى وضع أيدينا على قلوبنا خوفا من احتمال تحويل قوس العدالة العالمية إلى «قوس ونشاب» ضد العالم الثالث وحده.

أما بالنسبة إلى الانسحاب الأمريكى من العراق، وعلى رغم أنه خطوة إيجابية ومطلوبة بإلحاح، فإنها تبدو ملغومة إلى حد كبير.
فالقرار يتضمن إبقاء ما بين 30 و50 ألف جندى أمريكى فى العراق إلى ما بعد العام 2011 (وربما، لا بالتأكيد، إلى أبعد من ذلك بكثير). وهذا يعنى أن ما سيحدث ليس انسحابا بل «إعادة إنتشار» للقوات قد يسفر عن ثلاثة نتائج سلبية: الأول: إبقاء الهيمنة الأمريكية، وأن غير المطلقة، على بلاد الرافدين، بقوة المعاهدة الأمنية ــ العسكرية والاقتصادية ــ الثقافية الشاملة التى فرضتها واشنطن على بغداد. والثانى: تفاقم مخاطر تحوّل فيدرالية العراق إلى ضيعة رسمية لتقسيم العراق إلى ثلاث دول. والثالث: تحوّل العراق إلى ساحة صراع إقليمى واسع النطاق، فى إطار التنافس بين الأتراك والإيرانيين واليهود الإسرائيليين على إعادة صياغة النظام الإقليمى فى الشرق الاوسط.

هل ثمة رابط ما بين محكمتى السودان ولبنان وبين قرار «إعادة الانتشار الأمريكى» فى العراق؟

أجل. إنه فى كلا الحالين الغياب العربى المجلل من الفعل التاريخى وحتى من التاريخ نفسه. وهو غياب له على ما يبدو سبب يتيم: سيطرة الأنظمة الاستبدادية على المنطقة العربية، الأمر الذى يسمح للقوى الخارجية بفرض العدالة الاستنسابية المنطلقة من اعتبارات مصلحية ــ استراتيجية لاقانونية ــ إنسانية على الدول العربية، من جهة، ويطلق يد هذه القوى نفسها لاستباحة الأرض العربية غزوا وتقسيما وتفتيتا، من جهة أخرى.

هل نسمع أحدا هنا يهمس بحزن وغضب: حقا لا عروبة ولا حتى عرب، حين تغيب مصر؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved