كورونا والنظام الدولى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 7 مارس 2020 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
فى يوم 31 ديسمبر 2019 أعلنت الصين عن تفشى مرض أطلق عليه اسم كوفيد ــ 19 فى مقاطعة هوباى، وهو المرض الذى يصيب من ينتقل إليه فيروس كورونا. بعد أقل من عشرة أسابيع، فى 4 مارس 2020 أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أن المرضى فى العالم وصلوا إلى 92,943 حالة تسببت فى وفاة 3,160 مريضا. لم تظهر أى حالة فى 119 بلدا بينما ضرب المرض 75 بلدا، منها 43 بلدا سجلت أعدادا من الحالات تصل إلى العشر فأقل. المدير العام للمنظمة كرر التشديد على أن للمرض آثاره على الصحة العامة وعلى الاقتصاد، كما أن له أبعاده الاجتماعية والسياسية. المدير العام أكد أن المنظمة ستستمر فى إعطاء المشورة للدول والأفراد بشأن تقويم المخاطر وإدارتها لتمكنهم من اتخاذ قرارات بناء على معلومات وتحليلات موثوق بها.
تصدى منظمة الصحة العالمية للمرض وتعبئتها لمواردها وجهودها، بما فى ذلك المؤتمرات الصحفية شبه اليومية التى يعقدها مديرها العام بشأن انتشار المرض ومكافحته، وانتقال بعثات منها إلى الصين وكذلك إلى إيران للدراسة والمساعدة على وقف انتشار الفيروس وعلاج كوفيد ــ 19، كلها مظاهر لأن المرض، وإن كان ظهر فى الصين، فهو يضرب النظام الدولى المتعولم كله. فى عصر العولمة الحالى حيث التقدم العلمى والتكنولوجى المتنامى فى وسائل الاتصال ووسائط النقل، تنتشر الآفات بسرعة هائلة، فتعم مثلا آثار الأزمة المالية العالمية فى 2008ــ2009 أو أعراض كوفيد ــ 19 والإصابة بفيروس كورونا بشكل شبه فورى.
لاحظ مراقب عليم أنه فى القرن الرابع عشر ظهر الطاعون فى نفس مقاطعة هوباى الصينية وراح ضحيته 5 ملايين صينى أغلبهم من هذه المقاطعة. حدث هذا فى الثلاثينيات من ذلك القرن ولكن الأمر استغرق سنوات حتى وصل المرض إلى إيران ومنها انتقل بعد سنوات عديدة إلى إيطاليا حيث دخلها فى 1347 من ميناء جنوا، ومن إيطاليا انتشر فى أوروبا. فى إيران وفى أوروبا حصد الوباء أرواح نصف سكان كل منهما. العولمة تنقل العلل الاجتماعية والاقتصادية وكذلك الفسيولوجية بسرعة لا يقارن بها بطء الحركة والإيقاع فى القرن الرابع عشر. فى ذلك الزمان كان العالم معصوما من آثار سرعة الانتقال والالتقاء والانتشار. ولكن فى المقابل، عالم اليوم وإن كان ضحية السرعة التى ارتفع إيقاعها فى القرون السبعة الماضية، فهو أيضا المستفيد بها، فلقد ارتفعت سرعة الاكتشافات العلمية التى تُمَكِّن العالم من التصدى بكفاءة للعلل التى تصيبه. على الرغم من سرعة انتشار كوفيد ــ 19 من الصين إلى بقية آسيا، إلى أوروبا وإفريقيا وأمريكا، انظر فى العدد المحدود نسبيا لضحاياه إذا أخذت فى اعتبارك المساحة الشاسعة من العالم التى طالها.
***
المهتم بالأمراض والأوبئة وآثارها فى العالم والتصدى لها يشير، أول ما يثير، إلى الإنفلونزا الإسبانية التى ضربت العالم منذ قرن من الزمان، وكان أول ظهورها لدى نهاية سنة 1918 بانتهاء الحرب العالمية الأولى. مذبحة الحرب العالمية الأولى راح ضحيتها حوالى العشرين مليونا من البشر، أما الإنفلونزا الإسبانية فقد سقط من جرائها خمسون مليونا على الأقل وتذهب بعض التقديرات إلى المائة مليون من البشر، منهم 675,000 فى الولايات المتحدة وحدها، أى ما يعادل عدد الضحايا الأمريكيين للحرب العالمية الثانية تقريبا. الاعتقاد هو أن البكتريا المتسببة فى الإنفلونزا الإسبانية نشأت فى الظروف المعيشية المزرية فى خنادق الجنود على الحدود الفرنسية الألمانية، فلما سُرِّحَ الجنود نقلوا المرض معهم إلى أسرهم وقراهم ومدنهم. منذ مائة عام، أى منذ فترة قريبة جدا بمعيار تاريخى، لم يفهم بنو الإنسان ماذا أصابهم. بعضهم ذهب إلى أن السبب فى الحمى التى أصابتهم هو أثر عدم الاتساق فى ترتيب الكواكب، ومن هنا استخدام كلمة «إنفلونزا»، وهى «الأثر» باللغة الإيطالية للدلالة على هذه الحمى. آخرون اعتبروا أن حمما بركانية هى السبب فى الحمى. كانت خمس عشرة سنة ضرورية لكى يخرج عالمان فى الثلاثينيات الأولى باكتشاف شيء اسمه «فيروس» واعتباره مسئولا عن الإنفلونزا الإسبانية. ومرت سنوات أخرى حتى أمكن تصوير هذا «الفيروس» باستخدام المجهر فى سنة 1940. قارن بالوقت الحالى. منذ ظهر كوفيد ــ19 عند نهاية ديسمبر من العام الماضى، اشتبه العلماء فى أن السبب فيه هو فيروس، ولم يمر أسبوعان حتى كانوا قد حددوا أنه فيروس كورونا ورسموا تتابع الجينوم الخاص به واكتشفوا أن الخفافيش هى مصدره الأكثر احتمالا بين الحيوانات. فى خلال المائة عام الماضية تمخض العلم عن اكتشاف المضادات الحيوية بعد عشر سنوات من اندلاع الإنفلونزا الإسبانية ثم انتشر استخدامها فى الأربعينيات إبان الحرب العالمية الثانية. المضادات لا تعالج الفيروسات ولكنها فعالة فى معالجة مضاعفات من يصابون بها، مثل الالتهاب الرئوى الذى كان السبب المباشر فى مقتل عشرات الملايين من ضحايا الإنفلونزا الإسبانية.
ليس ما تقدم تهوينًا من فيروس كورونا ولا من كوفيدــ19 وإنما هو للتنويه بالتقدم الذى حققته البشرية بالعلم وبالتعاون بين من ينتمون إليها، والمنتظمين فى تكوينات سياسية هى الدول، وهو تشديد على أن خلاصها سواء من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أو من الحروب والصراعات المسلحة وغير المسلحة، أو من الصدمات البيولوجية، أو التغيرات البيئية، أو الكوارث الطبيعية، هو بالتعاون، التعاون الدولى وحده.
***
صحيح أنه كان ثمة من لم تفته فرصة كوفيدــ19 لينشر دعاواه القومية المنغلقة والأنانية والاستعلائية. ماتيو سالفينى نائب رئيس الوزراء الإيطالى السابق، زعيم حزب الرابطة اليمينى، سارع إلى مطالبة رئيس الوزراء الحالى بإغلاق الحدود الإيطالية، فلما اكتشف أن إغلاق الحدود سيصيب أنصار حزبه بالذات فى منطقتين صناعيتين له فيهما الأغلبية، حَوَّلَ دفة خطابه ليطالب رئيس الوزراء بحماية إيطاليا من دخول الأفارقة تحديدا على الرغم من أن إفريقيا هى أقل القارات تأثرا بالفيروس والمرض الناشئ عنه. رئيسة التجمع الوطنى القومى اليمينى الفرنسى بدورها دعت إلى إغلاق الحدود مع إيطاليا على الرغم من أن حالات الإصابة بالمرض فى فرنسا لأشخاص لم يسافروا إلى إيطاليا أو لهم علاقة بها. وفى بلد ثالث تجد تأكيدا على أن المصابين من غير المواطنين وكأن ذلك يعنى أنهم محصنون ضد المرض، أو كأنما المرض شيء مخجل أو عار وليس إصابة ً كل إنسان معرض لها ويجب التحوط تماما لها، زادت فرص الإصابة بها أو قلّت. وقد ينخفض مستوى الخطاب تماما لتجد رئيس الدولة الأعظم يتهم خصومه بأنهم يهولون من خطر المرض عمدا لينالوا منه ويلقى بالمسئولية عن عدم تصديه للمرض بما يكفى على عاتق سلفه.
غير أن البشر فى هذا البلد أو ذلك، فى تصديهم للفيروس وللمرض فى بداية العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين، يستفيدون من دروس الماضى التى استخلصها العلم بتقدمه فيما يمكن اعتباره تعاونا عابرا للزمن. ضرورة عزل المصابين بالأمراض سريعة الانتشار درس استخلص من عدم تطبيقه عند مواجهة الإنفلونزا الإسبانية وهو توسعة لفكرة الحجر الصحى على المسافرين بحرا الراجعة إلى نفس القرن الرابع عشر بغرض الحماية من انتشار وباء الطاعون المذكور من قبل. والتعاون الدولى الأفقى فى الوقت الحالى هو أيضا على قدم وساق. اكتشف فريق بحثى صينى فيروس كورونا كما ذكر أعلاه ونشر اكتشافه فورا فوصل إلى الباحثين فى العالم أجمع فهرع المختصون منهم والمؤهلون إلى معاملهم يبحثون عن مصل واقٍ وعلاج شافٍ. لم يعترض أحد على أن ترسل منظمة الصحة العالمية بعثة للتعاون والمساعدة إلى إيران على الرغم مما يعترى علاقاتها من توترات مع بعض الدول وعداء مع بعضها الآخر. الدراسة النظرية للعلاقات الدولية تستبعد وجود الصراع المطلق، أو التعاون المطلق، بين الدول.
تعليق المؤتمرات والاجتماعات والأنشطة الرياضية والتجمعات الكبرى يمكن النظر إليه على أنه انغلاق على الذات ورغبة فى حماية النفس من فيروس أو مرض قد يحمل أى منهما الغير. ولكن يمكن اعتباره أيضا تعاونا لحماية هذا الغير من بعضه البعض وممن يقرر الإغلاق نفسه. أحسنت السعودية بتعليق العمرة للحفاظ على سلامة مواطنيها وكذلك لحماية المعتمرين أنفسهم. يجدر التذكير بأن وباء الكوليرا فى ترحاله فى منتصف القرن التاسع عشر من أصل نشأته فى الهند وصل إلى الجزيرة العربية وإلى مكة بالذات فأصاب الحجيج وراح ضحيته خمسة عشر ألف نفسا.
مواجهة الأوبئة والأمراض من أولى المحركات لنشأة التنظيم الدولى متعدد الأطراف الحديث وهو التعبير عن التعاون الدولى. فى 1851 انعقد مؤتمر للدول الأوروبية للتباحث فى التصدى للكوليرا والطاعون والحمى الصفراء. بدأت نشأة أنظمة الصحة العامة الحديثة فى العشرينيات من القرن الماضى فى البلدان الأكثر تقدما ثم انتقلت، مع تجاربها، إلى البلدان الأخرى. هذا أيضا مثال على التعاون الدولى. ومرة أخرى منظمة الصحة العالمية التى ترصد وتنصح وتوجه وتضع المعايير تجسيد للتعاون الدولى. والمهم أنها نصائح وتوجيهات ومعايير تقبلها الدول من غير مضض. نفس الدول التى يمكن أن تجفل من نصائح ومعايير منظمة التجارة العالمية أو منظمة العمل الدولية.
غريزة البقاء تحمل البشر على التعاون. ولكن لا يمكن أن يكون هدف الإنسان مجرد البقاء. لعل تهديد فيروس كورونا يحث البشر على ترسيخ التعاون بينهم فى المجالات الأخرى للنظام الدولى، بل ويضطرهم إلى ذلك. تتوالى التقديرات فى الوقت الحالى للتباطؤ الاقتصادى الذى سيترتب على مواجهة الفيروس والمرض. التعاون الدولى سوف يكون ضروريا لإعادة تنشيط الاقتصاد العالمى.
فى النظام الدولى نزاعات وحروب ولكن للبشرية عقلا جمعيا دفعها ومازال للتعاون فيما بينها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة