كيف أطال مبارك من عمر نظامه؟!
يحيى قلاش
آخر تحديث:
السبت 7 مارس 2020 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
• رحل حسنى مبارك، وكلنا راحلون، لكن يبقى حساب التاريخ، وتظل كلمة الشعب فاصلة، فالشعوب لا تثور أو تنتفض إلا بعد أن يفيض الكيل ويسد أفق المستقبل، ويستنفد الحاكم كل حيله، ويركن فى النهاية إلى الأمن وحده فى إدارة ما يجب أن تؤديه السياسة.. وعلى مدى سنوات طويلة قضيتها فى العمل النقابى، وخلال أحداث ومواجهات خاضتها النقابة دفاعًا عن حرية الصحافة، وعن حقوق الصحفيين فى مواجهة سلطة تعتبر ترسانة القوانين المقيدة، أعز ما تملك ولم تحد لحظة عن تصورها أن نقابة الصحفيين بؤرة للقلق!، شاهدت كثيرا من أدوات مبارك ونظامه فى الحكم بغريزة البقاء.. ففى عام ١٩٩٥ وفى رسالة وجهها هيكل للجمعية العمومية للصحفيين، التى هبت لرفض القانون ٩٣ الذى صدر بليل ليفرض قيودًا على الصحافة، وصف نظام مبارك أنه «سلطة شاخت على مقاعدها».. وسقط مبارك بعد هذا التاريخ بستة عشر عامًا، بعد أن جلس على كرسى الحكم نحو ٣٠ عامًا. أحداث أزمة هذا القانون وغيرها تكشف طريقة نظام مبارك غير الديمقراطى، الذى صمد بها لعقود ثلاثة.. منها الاحتواء، وترك الهوامش، وتدوير الأزمات، ورجال دولة يلعبون أدوارهم ببراعة لخدمة النظام. فعندما احتدمت أزمة هذا القانون مع النقابة ورفض مبارك مناشدة النقابة بعدم التوقيع عليه جاء الرد سريعا «إحنا ما بنبعش ترمس»، وعندما انتفض الصحفيون تؤيدهم بعض القوى الحية، ظهر فى الكواليس الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس متواصلا مع رموز نقابية وصحفية من مختلف الاتجاهات لوضع سيناريو الخروج من الأزمة بجعل مبارك حكمًا، وليس فاعلًا أصليًا، ودخل صفوت الشريف على الخط والتقى مجلس النقابة، ليرتب أول لقاء بين المجلس والرئيس فى محاولة للتهدئة وامتصاص الغضب المتصاعد، ودخلت أطراف عديدة فى الحوار مع النقابة منها رئيس الوزراء (عاطف صدقى ثم الجنزورى بعده) ورئيس مجلس الشعب (فتحى سرور) ورئيس مجلس الشورى (مصطفى كمال حلمي) ووزير الإعلام (صفوت الشريف) ووزير الداخلية (حسن الألفي) وغيرهم. وعندما اكتشفنا محاولات التحايل وليس الحل، أعلن أعضاء مجلس النقابة استقالتهم الجماعية، ثم انضم إليهم بعد ذلك النقيب إبراهيم نافع أمام اجتماع للجمعية العمومية، بعد أن فشلت اتصالاته وقتها فى الوصول لحلحلة الأمور، بما يلبى مطالب هذه الجمعية. واستحكمت الأزمة وبلغت ذروتها فتحدد اللقاء الثانى بين مبارك ومجلس النقابة بحضور عدد من النقباء والنقابيين السابقين (حافظ محمود وكامل زهيرى ومكرم محمد أحمد وجلال عارف ومحمود المراغى ومصطفى نبيل وصلاح عيسى وحسين عبدالرازق). ورضخت الدولة أمام إصرار الصحفيين وصمودهم على مدى عام كامل وسقط القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ وصدر بديلًا عنه القانون ٩٦ لسنة ١٩٩٦.
طريقة دولة مبارك تجلت فى أزمات عديدة كانت النقابة طرفًا فيها، وظل لرجالها دور فى مد جسور التواصل للمساهمة فى حل العديد، منها خدمة للنظام، وليس انحيازًا لحرية الصحافة.. وأذكر أيضًا أنه بعد نجاح النقيب جلال عارف ضد صلاح منتصر عام ٢٠٠٣ بعد طول غياب لظاهرة النقيب المستقل، ووجود ما كان يوصف بـ«نقيب الجسور» منذ تدخل السادات فى انتخابات ١٩٨١ لإسقاط كامل زهيرى، الذى رفض قرار السادات بتحويل النقابة إلى مجرد نادٍ، وحظر التطبيع، ورفض طلب السادات بفصل بعض الصحفيين المعارضين لسياساته ورفع زهيرى شعار «العضوية كالجنسية».. وجاء صلاح جلال، ومن بعده تناوب على الموقع إبراهيم نافع، ثم مكرم محمد أحمد. وفى عام ٢٠٠٣ نجح جلال عارف فى كسر القاعدة التى بدا أنها استقرت على مدى اثنين وعشرين عامًا، بعد أن ثبت وهم صيغة نقيب الجسور. وكانت حسابات التعامل فى البداية مع النقيب الذى أتى من خارج الصندوق شديدة التعقيد؛ لأنه لم يعتد عليها الجهاز العصبى لدولاب الدولة، وعبّر البعض قبل الانتخابات عن صعوبة التعامل مع نقيب «مستقل» كما أبدت بعض أجهزة الدولة بعد نجاح عارف حيرتها واعتبرته صندوقا مغلقا. وهنا تظهر طريقة تفكير مبارك بعد أن استمع لحوار للنقيب الجديد على إحدى القنوات الفضائية العربية، ليتصل بصفوت الشريف وزير الإعلام ليستفسر منه هل شاهد الحوار؟، واعتبر الرجل غير ما صوروه له. وجاءت المبادرة من عنده وبادر مكتب الرئيس الاتصال بالنقيب لتحديد موعد للقاء مبارك فى يناير ٢٠٠٤ وامتد اللقاء أكثر من المحدد له، وتناول الحديث عن مشاكل النقابة المتراكمة والعجز فى ميزانيتها الذى تجاوز ــ وقتها ــ أكثر من ٨ ملايين جنيه، وعجزها عن تقديم خدمات للصحفيين (فى ظل نقباء الجسور) وتحدث أيضًا عن منظومة التشريعات التى تحتاج إلى تغيير، خاصة عقوبات الحبس فى قضايا النشر وأوضاع المؤسسات الصحفية. واستجاب مبارك لكثير مما طلبه جلال عارف وقال له: «وأنت عايز إيه لنفسك يا جلال»، فرد ببساطة وحسم «باشكرك فقد طلبت كل ما أريد».. وقال مبارك لمقربين له إنه أول مرة يلتقى قيادة صحفية فى موقع مهم لا تطلب لنفسها شيئًا!!
وفى مارس من العام نفسه، وفى اليوم السابق على عقد المؤتمر العام الرابع للصحفيين اتصل مبارك بالنقيب جلال عارف ليبلغه إعلان موافقته أمام المؤتمر على إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر. واللافت أن صفوت الشريف وزير الإعلام، الذى كان مدعوًا لحضور المؤتمر، جاء ولم يكن يعلم بقرار الرئيس إلا من النقيب قبيل بدء الجلسة الافتتاحية.. وحاولت جهات وأجهزة عدة الالتفاف على هذا الوعد على مدى عامين، والرئيس كأنه لم يقل شيئًا!
ولم يجد النقيب ومجلس النقابة طريقًا آخر إلا دعوة الجمعية العمومية للانعقاد فى دورتها العادية فى مارس ٢٠٠٦، وعلى جدول أعمالها نقطتان هما إلغاء الحبس فى قضايا النشر، وموضوع أجور الصحفيين. وساندت الجمعية موقف مجلس النقابة، واتخذت عدة قرارات منها الخروج بمسيرة من النقابة إلى مجلس الشعب، الذى كان قد تقدمت له النقابة بمشروع قانون لإلغاء الحبس، من خلال بعض النواب بناءً على الوعد الرئاسى، ولكن ظل حبيس الأدراج. وفى اليوم نفسه الذى تمت فيه هذه الوقفة، التى شاركت فيها رموز مهنية ونقابية (حضر كامل زهيرى على كرسى متحرك)، وشخصيات عامة تضامنًا مع مطالب النقابة انحيازًا لحرية التعبير وحرية الصحافة، باعتبارها إحدى الحريات العامة، تلقى النقيب اتصالًا من رئيس الوزراء (أحمد نظيف)، ورئيس مجلس الشعب (فتحى سرور)، ورئيس مجلس الشورى (صفوت الشريف)، والتقى مجلس النقابة برئاسة جلال عارف فتحى سرور وصفوت الشريف، كما التقى أحمد نظيف فى حضور مفيد شهاب وزير شئون مجلس الشعب وأنس الفقى وزير الإعلام، الذى كان يتخذ موقفًا معاديًا لدور النقابة، ومعبرًا بوضوح عن رؤية جمال مبارك وأحمد عز. وجرت جولات من المفاوضات حول مطلب النقابة بإلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر، انضم للنقابة فيها الدكتور نور فرحات، كما تم فتح ملف الأجور بتشكيل لجنة من المجلس الأعلى للصحافة والنقابة ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية لمناقشة لائحة الأجور التى تقدمت بها النقابة. فى قضية الأجور طالت الاجتماعات، وتعددت وناور صفوت الشريف، لاستهلاك الوقت حتى انتهت مدة النقيب جلال عارف، وجاء مكرم محمد أحمد فأغلق الملف. وفى موضوع إلغاء الحبس، تعددت الاجتماعات واللجان، وانتهى الأمر إلى تعديلات فى قانون العقوبات، أدت لأول مرة إلى إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر مع مضاعفة الغرامة فى مواد السب والقذف، ولكنها بقيت فى العديد من المواد الأخرى مثل إهانة الهيئات أو الطعن فى الأعراض. ولكن حدثت أزمة بسبب الإصرار على استحداث وتمرير مادة تجيز الحبس، إذا تم تناول الذمة المالية للشخصيات العامة أو المسئولة، وهى المادة التى كان يصر عليها أحمد عز وجمال مبارك، وأعضاء لجنة السياسات بالحزب الوطنى، والتى أطلقنا عليها مادة تحصين الفساد.
وصعَّدت النقابة من موقفها، واستجابت الصحف الخاصة والحزبية لدعوتها بالاحتجاب، كما دخل سكرتير عام النقابة فى اعتصام مفتوح استمر لأكثر من أسبوع. وأمام هذا التصعيد وخلال جلسة البرلمان، التى كانت ستقر هذه التعديلات أعلن الدكتور مفيد شهاب رئيس شئون مجلس الشعب أن الرئيس مبارك قد اتصل به صباح اليوم، وقبيل انعقاد جلسة البرلمان، وطلب حذف هذه المادة ليتم نزع فتيل هذه الأزمة. ومرة أخرى يظهر مبارك عندما اشتد الهجوم على النقابة، عندما جاء مرشد الإخوان مهدى عاكف إلى النقابة بطريقة فيها تحايل من صلاح عبدالمقصود عضو مجلس النقابة، وعقد مؤتمرًا صحفيًا أثار ضجة وحملة هجوم منظمة على النقابة، وصرح حبيب العادلى وزير الداخلية أن ما حدث سقطة من النقابة (وكتبت مقالًا بجريدة «العربى» للرد على تصريحاته التى وصفتها بأنها سقطة وزير)، كما حاول وزير الإعلام أنس الفقى محاصرة النقابة والضغط عليها بتعمد تأخير دعم صندوق المعاشات الذى كان يأتى للنقابة من وزارة المالية عبر وزارة الإعلام. وصمدت النقابة، ولم تهتز، ولكن الذى حدث أن مبارك أجرى اتصالًا بجلال عارف، الذى كان قد تعرض لأزمة صحية طارئة ليقول له ضاحكًا: «يا جلال أنا عرفت اللى حصل فى موضوع الإخوان وحركاتهم!!»، وهنا هدأت حملة الهجوم الفجة على النقابة إلى حد ما، ولكنها لم تتوقف أبدًا؛ لأن هناك من الأشخاص والجهات والأجهزة لم يكن يروق لها ما كان يحدث فى النقابة وعلى سلالمها التى لم تكن تتوقف المظاهرات عليها، والتى كانت تهتف بعضها بسقوط حسنى مبارك ومهاجمة موضوع التوريث. وضمن ذلك أذكر أيضًا عندما بدأ موضوع الحديث عن خصخصة المؤسسات القومية ومخطط يوسف بطرس غالى وجماعة جمال مبارك، وأرسل النقيب جلال عارف خطابًا إلى مبارك يُحذر فيه من هذا الاتجاه، ويطالبه بالتدخل، وجاء الرد سريعًا عندما تمت دعوة النقيب لحضور لقاء للرئيس مع عدد من المثقفين، وبعض رؤساء التحرير، وسأل مبارك: «فين جلال عارف؟»، والتفت الجميع للنقيب والرئيس يقول له: «يا جلال أنا بقولك أهو مفيش خصخصة للمؤسسات القومية»، وكان هذا التصريح هو عنوان جميع الصحف فى اليوم التالى. مواقف كثيرة تثبت أن هذا النظام الذى كان يملك ترسانة من القوانين المقيدة للحريات وجيشًا من ترزية القوانين، الذى كنا نطلق عليهم «العقوبيين»، احترف كيف يجيد أمر إطالة حكمه ببعض من «ديمقراطية الهوامش»، وأدوات الدولة المتمرسة، مما مكن السلطة التى شاخت على مقاعدها حسب تعبير الأستاذ هيكل عام ١٩٩٥ أن تحكم ١٦ عامًا أخرى، وحتى طالب الشعب بإسقاطها عام ٢٠١١.
تجربة مبارك تؤكد أن من يملك الرؤية والقناعة فى أن حرية التعبير جزء من حقوق عامة، تحقق الاستقرار، غير الذى يحاول الاحتواء كى يطيل أمد حكمه وعمر نظامه، وفى النهاية يذهب إلى نهاية النفق، ودون أن نرى نقطة ضوء واحدة.